هل يمكن القول أن السيسي يعاني اليوم من حصار سياسي يشكل خطورة على مستقبل سلطته وتهديدا لقدرته على إدارة شئون الدولة كما يريد أو كما يتمنى ، بعض ما يجري الآن في مصر ربما يعطي إشارة إلى هذا المعنى ، كما أن التأمل في ما انتهت إليه الخريطة السياسية في مصر التي تشكلت بعد 3 يوليو ، ربما يجعل هذه الفرضية أقرب إلى التصديق ، وربما كانت تلك الخريطة وما آلت إليه التحالفات السياسية والمؤسسية دليلا ممكنا ومعقولا لاكتشاف فرضيات المستقبل واحتمالاته في ظل غموض سياسي غير مسبوق في البلد . عندما جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم جاء مدعوما بخمس قوى أساسية ، في مقابل قوة واحدة كبيرة خسرها ، وهي قوة التيار الإسلامي المؤيد للرئيس الأسبق محمد مرسي وفي مقدمته جماعة الإخوان المسلمين ، فقد كان السيسي مدعوما من تيار ثورة يناير بكل أطيافه ، سواء الشباب بمختلف فئاتهم وائتلافاتهم أو ذلك التيار الجامع الذين مثلهم وقتها حركة تمرد التي اختزلت في لحظة اعتراضية رفض الشباب لحكم الإخوان ، أو كانوا من قادة ثورة يناير وقواها الأساسية والتي كان يرمز لها الدكتور محمد البرادعي ، أيضا كان مدعوما بقوة فلول نظام مبارك الذين رأوا في الحركة التي تزعمها السيسي لإطاحة حكم الإخوان فرصة لإنهاء مسار ثورة يناير المهدد لمصالحهم والأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي اكتسبوها وسيطروا عليها طوال النصف الثاني من حكم مبارك على الأقل والتي اهتزت بقوة بعد ثورة يناير ، والقوة الثالثة كانت قوة التيار المسيس في مؤسسة العدالة وهو الذي يقوده المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة وأحد رموز وقادة حركة 3 يوليو ، والقوة الرابعة هي المؤسسة العسكرية بأدواتها الأمنية ، وهي الأساس الذي يبنى عليه أي مشروعية واقعية لنظام سياسي في مصر طوال ستين عاما على الأقل ، ثم القوة الخامسة وهي قوة المؤسسة الدينية ممثلة بالأزهر والكنيسة ، ومعظم هذه القوى كانت حاضرة في مشهد تدشين مرحلة 3 يوليو عندما أعلن السيسي بيان المرحلة الجديدة . قوتان من هذه القوى يمكن القول بأنهما انقلبتا بالفعل على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وأصبحتا في صف الرفض والغضب ، سواء بشكل صريح أو بشكل غير معلن ولكن بصماته واضحة ، وهما : تيار ثورة يناير ، حيث لا يعتد بعدد قليل من الشباب أصبحوا مهمشين جماهيريا وإن تمت مكافأتها في بعض المؤسسات الجديدة ، كما أصبح التيار المدني بكامل أطيافه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ضده ، ومعهم بطبيعة الحال مؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الجمعيات الحقوقية ، والقوة الثانية والمتمثلة في فلول نظام مبارك فقد أداروا ظهرهم بوضوح للسيسي ، ورفضوا الاستجابة عمليا لأي من أفكاره التنموية والاقتصادية ومارسوا المراوغة التي احترفوها ، كما أنهم باتوا مهددين في مصالحهم الاقتصادية بشكل مباشر من خلال مراجعات لمجمل الأوضاع المالية والعقارية التي حققت لهم نفوذهم في السابق ، ويمكن بسهولة رصد غمزهم وضربهم في السيسي من خلال أدواتهم الإعلامية وخاصة الفضائيات في لعبة محسوبة بدقة وتأني ، القوة الثالثة وهي التيار المسيس في مؤسسة العدالة وقد دخل في صدام صريح مع الرئيس ونظامه ، وإن حاولوا تحسين الصورة بعد ذلك ، بعد أن أطاح السيسي بالرمز الأكبر والأشهر لهذا التيار وهو المستشار أحمد الزند في ليلة عاصفة ، ومن المرجح أن تتفاعل هذه الخطوة سياسيا في الأيام القليلة المقبلة وتزداد الفجوة والتحدي ، وأما القوة الرابعة وهي المؤسسات الدينية فقد تراجع نفوذها بقوة في الأعوام الأخيرة وفقدت الكثير من القابلية السياسية لدى الجمهور ، سواء على الجانب القبطي أو الجانب المسلم ، والأهم من ذلك أن أحدا لم يعد يفكر في حراك الشارع "المقنن" حاليا كبديل للقوة ، بعد إرهاق المجتمع من حراك عنيف ودموي طوال أربع سنوات على الأقل منذ يناير 2011 . بقيت المؤسسة العسكرية ، وهي قوة مؤسسية منضبطة ، ووضعت لنفسها موقع المرجع المحايد في الصراع السياسي منذ يناير 2011 ، راصدة توجهات المجتمع والشعب ، دون تدخل مباشر إلا إذا استشعرت أن الوطن أصبح في خطر حقيقي وأن الظروف لا تحتمل التردد ، وبالإضافة إلى تلك القوى هناك تيار شعبي عام غير منظور وغير مسيس ما زال ينظر للسيسي كأمل لإنقاذ البلاد والنهوض بها ، وهو تيار سلبي عادة ، وغير مستعد للتضحية أو المواجهة ، كما أنه لا يخفى أن هذا القطاع يتآكل باستمرار على وقع المشكلات الاقتصادية وأثرها المرهق على الإنسان العادي . هذه هي الخريطة السياسية لمصر حاليا ، والتي يعمل في ظلها السيسي ، وهو بحاجة إلى مواجهة أولويات ثلاثة بالغة الخطورة وبصورة عاجلة : الانقسام الوطني الحاد ، والانهيار الاقتصادي المروع ، وتحدي الإرهاب المتفاقم ، وبكل تأكيد فإن الخريطة القائمة لا يمكن أن تساعده في هذه التحديات ، بل كثير منها أفلت من يده وخرج من حلفه وشكل قدرا من الحصار حوله ، وهو بحاجة ماسة الآن إلى مراجعة الحسابات السياسية والبحث عن توازنات قوى جديدة ، إذا أراد الاستمرار وتجاوز الأخطار الثلاثة ، بعد أن انفرط عمليا التحالف القديم وتحول إلى عبء بل حصار ، ولعل هذا ما فتح الباب مؤخرا للكلام الكثير عن أفكار يتم تداولها عن مصالحات سياسية شاملة ، لن يكون الإخوان ومؤيدو الرئيس الأسبق محمد مرسي بعيدين عنها .