أصدرت محكمة القضاء الإداري أمس حكما مهما يتعلق بقرار حظر النشر الصادر من النائب العام في تحقيقات ما عرف بقضية تزوير انتخابات الرئاسة 2012 التي جرت بين الرئيس الأسبق محمد مرسي ومنافسه الفريق أحمد شفيق ، وهي القضية التي ما زالت تمثل لغزا حتى الآن ، نظرا لأن الفريق شفيق ومعسكره ما زالوا مصرين حتى الآن على أن الانتخابات تم تزويرها والتلاعب بنتائجها لحسابات سياسية وأنه هو الذي كان فائزا قبل تتدخل أياد مجهولة لتغيير بوصلة النتائج ، وبالنظر إلى أن الانتخابات جرت بإشراف وهندسة المجلس العسكري وقتها ، فإن الاتهام بالتلاعب في النتيجة لأغراض سياسية هو موجه بداهة بالأساس للمجلس العسكري ، ويبقى "التخمين" في أغراض المجلس من توجيه بوصلة النتائج لتكون في صالح مرشح الإخوان المسلمين وقتها ، حسب اتهام الفريق شفيق ، وكانت قد تسربت أخبار من مجريات التحقيق الذي قاده قاض منتدب أنه يتجه إلى إعلان تزوير نتائج الانتخابات بالفعل وتحويل الملف لمحكمة الاستئناف ، وثارت أزمة علنية بين قاضي التحقيق ورئيس محكمة الاستئناف وقتها المستشار نبيل صليب الذي قرر سحب الملف منه لأسباب مجهولة رغم مخالفة ذلك الواضحة للقانون ، ورفض قاضي التحقيق ولجأ للصحافة التي نشرت الواقعة ، وتحدث القاضي عن تهديدات وصلته ووصلت سكرتير التحقيق باعتقاله ، وبعد ظهور هذه التسريبات والجدل الخطير حولها صدر قرار مفاجئ ومستعجل بحظر النشر في هذا الموضوع ، وظل ساريا حتى صدر حكم القضاء الإداري ليجدد الحديث حول هذه المعضلة . هذا الملف خطير للغاية بالفعل ، لأن بعض نتائجه قد يجعلنا أمام تفسير جديد لتحولات السياسة المصرية الداخلية منذ يناير 2011 وحتى الآن ، ومن المعروف أن ثمة خصومة شخصية عميقة بين الفريق شفيق والمشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري السابق ، لا يطيق أحدهما الآخر ، كما أن الفريق شفيق ما زال مغضوبا عليه حتى الآن من قبل السلطات المصرية الحالية ، ومنذ ظهور نتائج تلك الانتخابات بينه وبين مرسي وقد غادر مصر على الفور ، وظن البعض أنه لجأ إلى الإمارات هربا من بطش محتمل من الإخوان ، إلا أن الإخوان رحلوا وهو ما زال لاجئا هناك ولا يستطيع العودة ، وهو ما جعل لهذا اللجوء أو الهروب بعد الانتخابات أبعادا أكبر من مشكلته مع الإخوان . الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري حمل إشارتين في غاية الأهمية ، الأولى في تفسير عقلاني ووطني لأهمية محاصرة ظاهرة حظر النشر التي توسعت السلطات فيها مؤخرا فيما يشبه فرض حصار إعلامي حقيقي على الرأي العام في القضايا المهمة ، وفي حيثيات الحكم الجديد قال المستشار يحيى الدكروري نائب رئيس مجلس الدولة : (الأخبار والمعلومات التي تخص الشأن العام تعتبر من أدوات تشكيل الرأي العام، وأن للمواطنين ولوسائل الإعلام الحق في اللجوء لمصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها ونقلها وإجراء النقاش والجدال حولها، ليشكل كل مواطن رأيه في الشئون العامة على هدى من نور الحقيقة ودون حجر على حرية الفكر .. إن محتوى الإعلام يؤثر في الرأي العام، فإذا كانت مادة الإعلام صحيحة وصادقة في أخبارها ومعلوماتها أدرك الرأي العام حقيقة ما يجري إدراكًا سليمًا، أما إذا حُرمت وسائل الإعلام من المعلومات والأخبار الصحيحة فإن ذلك ينعكس سلباً على الرأي العام) ، ثم أضافت المحكمة عبارة شديدة الأهمية تقول في نص الحيثيات : (كل مساحة تخلو في وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تمتلئ بالأكاذيب والأضاليل، وكل خصم من العلم الصحيح بالحقائق يؤدي إلى زيادة الجهل والانتقاص من الوعي العام، ويؤدي إلى عدم مصداقية وسائل الإعلام ويصرف الناس عن متابعة الشأن العام، كما يجرد وسائل الإعلام من تأثيرها الإيجابي في الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين وتبني قضاياهم) . وأهمية هذا النص أو تلك الحيثيات أنها تصدق في مختلف القضايا التي تم حظر النشر فيها ، وتغييب الحقائق عن الشعب الذي يوصف في الدستور بأنه "صاحب السيادة" ، وكلام المحكمة يشير إلى أن تغييب الحقائق يفتح الباب أمام الشائعات والأكاذيب ، وقد عادت المحكمة وأكدت أن كل تقييد لحق المواطنين ووسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومات الصحيحة والأخبار الصادقة يعد مخالفا للدستور . الإشارة الأخرى المهمة في حيثيات حكم المحكمة ، وكانت الفاصلة في إبطال حظر النشر، هي إشارتها إلى أن ملف القضية والتحقيقات كانت في حوزة قاضي التحقيقات ، وهو الوحيد الذي أوكل له القانون حق التصرف في القضية من كل الوجوه ، بينما فوجئ الرأي العام بتدخل النائب العام في الموضوع وإصداره قرارا بحظر النشر رغم أنه لم يحقق في الموضوع وليس طرفا فيه ، وقالت المحكمة في تلك النقطة ما نصه : (قرار النيابة العامة الصادر بحظر النشر في تلك القضية، خالف القانون، نظراً لأن النيابة العامة لم تجر أية تحقيقات بشأن هذه القضية، ومن ثم يعد قرارها تدخلاً غير جائز دون تكليف من قاضي التحقيق المنتدب، والذي يختص وحده دون وفقا لقانون الإجراءات الجنائية بإجراء التحقيق المنتدب له والتصرف فيه ومن ثم فإن قرار النائب العام يكون قد اغتصب اختصاص قاضي التحقيق المنتدب، بالمخالفة للدستور) . فإذا كان الأمر كذلك ، وملف القضية لدى قاضي التحقيق ، فما الذي دعا النائب العام لاقتحام الموضوع وإصدار قرار عاجل بحظر النشر ، رغم أنه لا يحقق في الموضوع ، من الذي طلب منه ذلك ، ولماذا ، هي أسئلة تضاف إلى ألغاز تلك القضية التي يبدو أنها مرشحة للتفاعل في الأسابيع المقبلة .