للمرة الأولى يحمل الرأي العام السياسي في مصر آراء الإعلامي توفيق عكاشة على محمل الجد ، لدرجة أن المهندس نجيب ساويرس الذي استضافه أمس على قناته الفضائية التي يملكها في حوار مع يوسف الحسيني ، غرد في مواقع التواصل الاجتماعي لحظة ظهور عكاشة بقوله : والآن مع فاصل كوميدي ، لكن ساويرس عاد بعد أقل من ربع ساعة لكي يعتذر عن ذلك ويقول : الكلام جد مش كوميديا ، أو كما قال ، لأن ما قاله توفيق عكاشة "تخبيط" من العيار الثقيل ، وكان الرجل يتحدث بمرارة شديدة يشعر بها تجاه أجهزة الدولة الأمنية ، وعتاب بطعم الاتهام ، بأنه كان شريكا لتلك الأجهزة في الإطاحة بالإخوان ، ثم باعوه بعد ذلك ، أو كما يقول المثل : أكلوه لحما ورموه عظما ، عكاشة "خبط" في مدير مكتب السيسي ، مدير مكتبه عندما وزيرا للدفاع وأيضا وهو رئيس للجمهورية ، الرجل القوي وصاحب النفوذ وموضع ثقة الرئيس ، اللواء عباس كامل ، ووصفه بأنه الذي يدير البلد في كل صغيرة وكبيرة حتى في توجيه بعض القرارات في مؤسسة العدالة ، لكنه أضاف تفصيلا خطيرا ، بأن اللواء عباس يدير البلد من خلال جهازي : الأمن الوطني والمخابرات العامة ، وأن هذين الجهازين يبسطان السيطرة على كل شيء في البلد ، حسب كلام عكاشة ، وكان بعفويته محرجا لمضيفه يوسف الحسيني عندما قال أن جميع الإعلاميين كانوا يعملون مع "الأجهزة" الأمنية قبل 30 يونيه لتنسيق العمل ضد الإخوان ، ولما تحفظ الحسيني على هذا الكلام أحرجه مجددا بقوله : لا ، الكل كان يعمل مع الأجهزة ؟!. حديث توفيق عكاشة العنيف والجريء ، فتح شهية المحللين والمتابعين لمحاولة تفسير دوافعه ، وبعضهم اعتبر أن هذه "مسرحية" مكتوب سيناريوهاتها سلفا لصناعة معارضة من داخل النظام ، بحيث يدشن توفيق عكاشة كمعارض للنظام ، وبهذا تصبح الأجهزة قد صنعت الموالي والمعارض سواء ، وهو تصور بعيد في تقديري لأسباب ، من أهمها أن القضية التي طرحها عكاشة في حواره وهجومه هي قضية شخصية بحتة ، معاناته كشخص قدم الكثير للأجهزة ثم باعوه ، وهذا خطاب لا يمثل معارضة ولا يؤسس لها ، لأن المعارضة أن تضحي بمصالحك الشخصية أو جزء منها من أجل المصلحة العامة ، وأيضا ، لأن عكاشة بتاريخه وطبيعة شخصيته لا يصلح لأداء دور معارض حقيقي ، وهو باعترافه الكامل إبن الأجهزة الأمنية ، وهناك مع الأسف طابور طويل من "المشتاقين" الجاهزين لأداء دور المعارض المستأنس إذا طلب منهم ، وهم جميعا أفضل أداء وإقناعا من عكاشة في هذا الدور ، وأقرب التفسيرات لما حدث هو ما قدمه الإعلامي إبراهيم عيسى ، من أن الأجهزة التي يعمل معها عكاشة رأت أنه "شاف نفسه" ، وأنه لم يعد منضبطا حسب "الريموت كونترول" وأنه يخرج على النص أحيانا ، وهذا يغضبهم ، وأعتقد أن إبراهيم هو أفضل من يفسر موقف عكاشة لأنه من الجناح نفسه الذي يعمل معه . تصريحات عكاشة العلنية ، وعلى الهواء مباشرة ، عن سيطرة المخابرات والأمن على شؤون البلاد والعباد ليست اكتشافا ، ربما فقط تضع عنوانا على حالة ومرحلة ، ولكن الجميع في مصر يدرك ويرى أن السيطرة الأمنية عادت بقوة على فعاليات الوطن المختلفة ، حتى البرلمان الجديد ، وفي شؤون التعليم والثقافة والإعلام والأحزاب إلا قليلا والحكم المحلي وغير ذلك ، وهذا منطقي جدا حسب توازنات الواقع ، لأنه منذ انكسار مسار ثورة يناير وقواها ، لم تعد هناك قوة مدنية شعبية أو حتى مؤسسة مدنية رسمية يمكن أن تؤثر في القرار أو تصنع القرار ، كان التلويح بمليونية شعبية فقط يكفي لكي يغير المجلس العسكري الحاكم موقفه ويستجيب للرسالة ، الآن لا مليونيات ، كما لا يوجد حزب ولا مؤسسة ولا كتلة شعبية ولا رسمية تملك القدرة ، وفي ظل هذا الفراغ السياسي من الطبيعي أن تملأه الأجهزة الأمنية لتدير المشهد بكامله تقريبا والجميع رسميا وشعبيا مضطر للانصياع ، وغالبهم لا يستطيع ، ولا يملك ، أن يقول : لا . لاحظت في كلام توفيق عكاشة أنه حدد هجومه على مؤسسات أمنية واستخباراتية بعينها ، ولم يأت على ذكر لمؤسسات أخرى ، وهو ذكي وحاضر الذهن ويعرف الحسابات جيدا ، وكانت الفترة التي سبقت 30 يونيه مباشرة والتي أعقبتها أيضا قد شهدت "حراكا" في انتقال ولاءات إعلاميين ومثقفين بين الأجهزة المختلفة والمتنافسة ، والبعض ممن كان "مربوطا" على كوادر الأمن الوطني تحول أو "ارتقى" للارتباط بمكون "سيادي" أكثر نفوذا وقوة ، وهذا النوع أصبح أكثر قسوة في نقده أحيانا للأمن الوطني وللداخلية ، تنفيسا عن "إهانات" سنوات الاستعباد وإذلالاتها ، ولإرسال رسالة بأنه قد "ارتقى" واتسعت دائرة حضوره السياسي والإعلامي وأحيانا "الاقتصادي" ، وثمة قطاع آخر من هؤلاء الإعلاميين والمثقفين يشعرون بشيء من المرارة ، لأن ما قدموه لم يشفع لهم في "المكافأة" التي حظي بها آخرون ممن عملوا بإخلاص مع الأجهزة ، حيث وصل بعضهم إلى منصب الوزارة أو قيادة مؤسسات ثقافية أو إعلامية مهمة ، وغضب توفيق عكاشة هو من هذا النوع ، لأن الأمر وصل في إنذاره إلى حد إرسال رسالة تأديب له بالقبض عليه لمدة أسبوع وإدخاله السجن قبل الإفراج عنه ، لتذكيره بحدوده وأن خروجه عن السيطرة يمكن أن يكلفه الكثير ، ويبدو أن عكاشة وصلته رسائل تحذير شفهية أخرى في الفترة الأخيرة بعد انتخابات البرلمان وتصوره أنه يمكن أن يلعب دورا مستقلا . من الطبيعي أن يسأل كثيرون السؤال التقليدي : أين الرئيس السيسي من هذه التجاذبات والصراعات والولاءات ؟ ... تلك قصة أخرى .