(1) يدور الحديث سائرا خلال الأونة الأخيرة عن الخلافة ودولة الخلافة، وحلم الخلافة المفقود المنشود.. وهناأود بداية أن أسجل حقيقة قد تغيب عن عقول الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة المسلمة، وهي أنه منذ قتل ذو النورين عثمان بن عفان في أيام التشريق أو تلوها بقليل من ذي الحجة عام 35وقد تناثر عقد الخلافة، وارتمت معه آمالالوحدة الإسلامية الجامعة،فلم تجتمع الأمة على حكم علي بن أبي طالب الخليفة الراشد الرابع كما لم تجتمع على ملك معاوية.. ولاحظ هنا وجود الخليفة الراشد "علي بن أبي طالب" أي الحكم الراشد، وغياب الخلافة بمعنى الدولة الأممية الواحدة. وعلى مدار ألف وأربعمائة عام —منذ ذلك التاريخ—باتت الخلافة الإسلامية في معناها الوحدويحلمًايراود أفئدة المسلمين جيلا بعد جيل، حاولتها الدولة الأموية، ولم تستطع تحقيق الخلافة بمعناها الحق، فقد اخترمت شرطها؛ فكانت حكما وراثيا عضوضا بعيدا عن الشعب في مجمل فتراته خلا ومضات عمرية لم تفتأ أن خبت بموت ابن عبد العزيز، وظهرت في الدولة سياسة طبقيةعنصريةبغيضةجاملت العرب على حساب الموالي (غير العرب)مما ولدظاهرة الشعوبيةوكراهية العجم للعرب واستعلائهم عليهم بتاريخهم ومعافهم، كما أنها خرجت عن حدود الدين والسياسة بلعن علي وآله على المنابر، وقصة مقتل الصحابي حجر بن عدي الكندي معلومة مشهورة عندما أنكر على زياد بن أبيه (والي الكوفة)، فقبض عليه وزج به في السجن ثم بُعث به إلى دمشق حيث كان مقتله. (2) إذًا، توالت الدول الكبرى على حكم بلاد المسلمين الشاسعة وكان أعظمها العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية والمغولية الهندية، وهي وإن أنجزت كثيرا من معاني الحكومة السياسية، فما حققت شيئا ذا بال من جوهر الخلافة القرآنية الشورية القائمة على تداول السلطة، وبيعة الشعب، وانتخاب الأكفاء، وتقديم الأخيار، ومشاركة الثروات، وتحقيق المساواة القرآنية، والعمل الجاد على إعمار الحياة وترجمة الكرامة الإنسانية القرآنية، كما أن عقد الدولة الإسلامية الذي انفرط يوم قتل عثمان أبى على الاجتماع بعد دم الخليفة الشهيد المراق؛ فلم تقم دولة خلافة إسلامية موحدة تجمع أطراف العالم الإسلامي بل ولا معظمها تحت سلطان واحد أبدا منذ ذلك الحين. (3) حقا، ظهرت دول مستقلة وولايات سلطانية حاكمة في ظل الخلافة، وفي كثير من الأحيان ما كان للخليفة معهم أمر ولا نهي— سواء أسمحت أنفس السلاطين والأمراءبالخضوع الاسمي للخلافة القرشية التي قنن عرفها الفقهاءأم لا.. ففي عصر الأمويين لم يزل أمراء الخوارج يثورون والعلويون يخرجون بل تبعهم في ذلك فقهاء وعلماء وقادة فكر، وفي ظل العباسيين كانت دولة الأمويين في الأندلس خارجة عن الخلافة العباسية بل أعلنت الخلافة عند ضعف دولة العباسيين (316ه/929م)، واستقل ابن طولون بمصر وأعمال الشام عن العباسيين، وكذا كان دأب الإخشيديين ثم استولى الفاطميون على كثير من ممالك وولايات الدولة العباسية في الشمال الأفريقي ومصر والشام واليمن، وفي الغرب الإسلامي في الشمال الأفريقيقامت دول الأدارسة والحموديين والمرابطين ومن بعدهم قام الموحدون، وورث الأيوبيون الفاطميين في مصر والشام حتى آل الحكم إلى "العبيد" من أمراء المماليك فأسسواالدولة المملوكية البحرية والبرجية، وأخيرا آل الأمر إلى العثمانيين عام 1517 ميلادية حيث دخلوا مصر وأقاموا بها ولايتهم. (4) من المهم هنا الحذر من الوقوع في سقطة النظرة الدونية لتاريخنا؛ فليس القصد من هذا العرض التأسيس لنظرية انتقاصية إزاء تراث السلطة الإسلامية؛ فقد كان التطور الفكري ونظريات الحكم في دور بدائي جعل من ترك الحكم عارا،حتى قال عثمان رضي الله عنه: "لست خالعا قميصا كسانيه الله تعالى" وهو يشير إلى الخلافة، وكأن مسئولية حكم المسلمين قميصا يلبس ثم لا يخلع؛كما كانت الحكومة تقوم على العصبية — كما في التفسير الخلدوني الشهير— وكانت غايةالحكومة حفظ الدماء وإنفاذ القضاء وأداء الشعائر وحفظ الجماعة .. والحق أن هذه الدول اشتملت على إيجابيات عديدةوكانت لها سلبييات مريرة؛ فهي وإن لم تُقم صرح الخلافة القرآنية بمعناها الإسلامي الخالص الذي يعرب عن الإنسانية الكاملة؛ فقد تقاربت مرة وتباعدت أخرى عن جوهر الحكم الراشد، سواء تسمى الحاكم خليفة أم سلطانا أم ملكا أم أميرا. والخلاصة أن مؤسسة الخلافة تعبير قيمي عن مؤسسة مدنية سياسية غايتها الحكم الراشد، وآليتها تفعيل الأخلاق القرآنية في حياة الناس.لكن لا تزالهناك أسئلة شائكة: متى تقوم دولة الخلافة؟هل الخلافة حلم موهوم أم غاية عملية يمكن تحقيقها؟ هل الخلافة خاصية إسلامية أم نموذج عالمي؟ هل يمكن لتنظيم ديني أو سياسياتسماو تسمى ب"الإسلامي" تنصيب "خليفة" في استدعاء غير منهجي لسابقة سلفية هيسقيفة بني ساعدة؟ ولهذا كله حديث آخر..
د. محمد فوزي عبد الحي جامعة الأزهر الشريف عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية