كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمثابة صحوة كبيرة و زلزال فكري عقدي منهجي عظيم قد عم أثره جزيرة العرب أولا ثم فاضت قوته على ما وراءها ، و قد تأثر بدعوته أكثر البلدان الاسلامية و ناصر بعض أهلها تلك الدعوة المباركة المبنية على كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم . و لم تكن دعوته - رحمه الله - بدعا من القول و لا كانت منبتة الصلة عن منهج رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي خطه للأمه ، فحاد كثير من الناس عن هذا الورد الصافي و النبع الأصيل إلى تعظيم قبور الصالحين و بناء القباب عليها و تقديم القرابين لها ما بين ذبح و نذر و أموال ، و ما بين استغاثة و استعانة و دعاء غير الله تبارك و تعالى و انتشر هذا الضلال و تلك الخرافة في الناس و انتشر السحر و الكهانة و الجهل حتى ما عاد كثير من الناس يعرفون الحق من الباطل و التبس عليهم أمر دينهم حتى على بعض المنتسبين إلى العلم و الدعوة إلى الله ، فكانوا بين جاهل بالحق مقلدا للعامة و مزينا لهم باطلهم و بين عالم بالحق خائف من الناس يتقي شرهم بالسكوت عن باطلهم ، و إيثاره السلامة عن مجابهة الناس بما هم عليه من ضلال و بين فريق ثالث قد آثر الدنيا و اشتراها بدينه قد استفاد من هذا الضلال و الجهل في تكثير ماله و دنياه . و حقيقة الأمر أنه لا تكفي مقالة و لا مقالتين لتبيين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه إنما هي اشارات تنير درب الباحث عن الحقيقة المتجرد عن الهوى السالك سبيل الرشاد ليبحث و يطلع ليعرف حقيقة تلك الدعوة المباركة ، و لكي لا يقع فيما وقع فيه شانؤوه من التقوّل عليه بغير حق و رميه بالباطل الذي هو بريء منه . يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله – عن نفسه في (الرسائل الشخصية ) ص 252 : ( لست ولله الحمد أدعوا إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم ، بل أدعوا إلى الله وحده لا شريك له ، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجوا أني لا أرد الحق إذا أتاني ، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين ، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه فإنه لا يقول إلا الحق .. ). يقول الاستاذ أنور الجندي في كتابه العالم الإسلامي والاستعمار السياسي و الاجتماعي و الثقافي ، (ص :255) عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "و قد تأثر بها دعاة السلفية في الهند و العراق و الشام و مصر و المغرب جميعا " و يقول في صفحة 257 " و كان من أبرز معطياتها عملان كبيران : أنها فتحت باب الاجتهاد في الفروع بعد أن ظل مغلقاً منذ سقوط بغداد في سنة 656ه . و ضرورة القيام بواجب الجهاد، وإحياء هذه الفريضة التي أصابها الوهن، و أنها – إلى ذلك - كانت ثورية بدوية عارمة على الاستبداد والضعف والانحلال الذي آل إليه العالم الإسلامي ، و كانت كذلك أول حركة تحريرية عربية اسلامية." ويقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه ( تأثر الدعوات الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ) (كان من أجرأ أصوات الحق ، وأكبر دعاة الإصلاح ، والبناء والجهاد لإعادة تماسك الشخصية الإسلامية وإعادتها لمنهج السلف الصالح: دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) لتجديد الحياة الإسلامية ، بعد ما شابها في أوساط العامة من خرافات ، وأوهام ، وبدع ، وانحرافات ، فكان ابن عبدالوهاب بحق ، زعيم النهضة الدينية الإصلاحية المنتظر ، الذي صحح موازين العقيدة الإسلامية الناصعة ، وأبان حقيقة الوحدانية والوحدة والتوحيد الخالص لله عز وجل) و ممن تأثر بدعوته في مواسم الحج ، ثم حملها إلى بلده و نادى بها و دعا إليها عالم اليمن الشوكاني ، و الألوسي بالعراق ، و أبو رواس الناصري بالجزائر ، و الشيخ عثمان دانفودو من السودان ، و في المغرب سيدي محمد بن عبدالله وكذلك (مولاي سليمان) و لو رحنا نطالع المقالات و الكتب و المؤلفات التي قيلت و ألفت في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و كذلك كتب مناوئيه و الردود عليها ما وسعنا مئات المقالات ، و لكنها إشارات مضيئة في حياة الرجل لمن أراد أن يبصر الحق ، و يستطيع أي قارئ تتبع سيرته و الحكم عليه بضغطة زر في مواقع البحث الالكترونية ليعرف قدر الرجل و مكانته و شرفه بشرط أن يكون باحثا عن الحق أو محايدا و ليس له غرض تبناه مسبقا. لم تنفصل دعوة الشيخ عما نادى و ينادي به العلماء و العقلاء في القديم و الحديث ، و هل يختلف اثنان ممن يعتد بقولهم ، على أن ما يفعله بعض العامة من الطواف بالقبور و بناء القباب عليها و إسراج السرج حولها و دعاء الأموات من دون الله استغاثة و استعانة و طلبا للحوائج فضلا عن تقديم النذور و القربان من ذبج و مال و حنطة و شعير إلى تلك الشواهد ، هل يختلف اثنان من العقلاء على بطلان هذا شرعا و عقلا و طبعا ، أم أن القوم قد أعيتهم الحيل و الحجة و البرهان فعمدوا إلى التشغيب و التشويه و البهتان بالباطل تجاه تلك الدعوة المباركة و المنتسبين إليها و المتأثرين بمنهجها . و لا يدعي أحد أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب منزه عن الخطأ و النسيان مما قد يعتري أي بشر ما عدا محمد صلى الله عليه و سلم الذي عصمه الله في تبليغ رسالته فجعله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى . كانت أحوال الجزيرة العربية التي بدأ الشيخ بن عبد الوهاب منهجه الاصلاحي فيها على شر حال في أمور العقيدة مما ذكرناه آنفا و كذلك في كل أرجاء العالم الاسلامي ، ففي المدينة طافوا بقبر المصطفى واستغاثوا به، و سألوه حوائجهم من دون الله ، و هو القائل صلى الله عليه و سلم ((إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله))، و خالفوا قوله: ((إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله))! وفعلوا هذا الشرك بقبور فاطمة وأمهات المؤمنين، وكبار الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين - بالبقيع والشهداء. وهكذا في اليمن وغيره اتخذ الناس الشواهد على القبور وعُبدت من دون الله، وفي نجد عُبِدت القبور والأشجار والأحجار، وكَثر الكهَّان والطواغيت والسَّحرة، و كذا الحال في كل مكان، وكان من تلك الأضرحة التي كانت تُعبد من دون الله قبر زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - في اليمامة، فقد بُنيت عليه قبة مشرفة، وقصده الناس من كل مكان، وكانوا يطوفون به، ويطلبون منه الحوائج، وكان الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في بداية دعوته يأتي إليه ويسلم عليه، وعلى مَن معه مِن شهداء موقعة اليمامة السلام المشروع السُّنة في زيارة القبور، ويقول لِمَن يسمعهم يدعون زيدًا: "أسألوا الله، فإنه خير من زيد"، و لا يملك من الإنكار عليهم غير ذلك، وليس له منهم مجيب. وفي مصر غالى الناس في البدوي وغيره و ما يفعل عنده مما هو معروف و إلى الآن ، وفي الشام عُبِد مَن اشتهر مِن الأخيار هناك، وفي العراق عبدالقادر الجيلاني - رضي الله عنه - وأقامت الرافضةُ أكبر وثنية في النجف وكرْبلاء بما فعلوا بقبور الحسين بن علي - رضي الله عنه - و آل البيت مِن أفعال شركيَّة. قال الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر في كتابه حقيقة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 6 و ما بعدها بتصرف وتفرَّق الناسُ في أمر دِينهم، وصار التمذهُبُ فريضةً لازمة، ولزوم المذهب - جملةً وتفصيلاً - أمرًا لازمًا، وتقديمُ قول إمام المذهب المنسوب إليه ولو لم يقلْه مقدَّمًا على قول الرسول صلى الله عليه و سلم بحُجَّة شيطانيَّة، هي النفي لصحته، ولو كان في "الصحيحين"! أو تأويله بغير معناه، محتجِّين بأنَّ إمام المذهب لم يأخذْ به، وهو أعلم بالحديث من غيره، متجاهلين قولَ كل إمام: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، وقوله: "خذوا مما أخَذْنا منه - يعني: القرآن وسُنة النبي صلى الله عليه و سلم فإنَّنا نقول القول اليوم، ونرجِع عنه غدًا"، وقول الإمام مالك - رحمه الله - وبمعناه قد قالوا جميعًا: "إذا خالَفَ قولي قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضربوا بقولي عُرْض الحائط". وأما ما يتعلَّق بالحُكم والقضاء، فقد صار إصدارُ الأحكام، وفصْلُ الخصومات في أكثر الأماكن بالجزيرة العربية، وخاصَّة في البوادي وتهامة، إلى الطواغيتِ مِن الكهَّان، وبعض شيوخ القبائل الذين يَحْكمون بالأعراف، والأهواء والشعوذة والدَّجَل، وفي الحواضر يقضي أكثرُ القُضاة بالرِّشْوة والجَهْل، فضاعتِ الحقوق، وانتشر الظلم. وفي الاقتصاد عمَّ الفقر بسبب الحروب، وقطْع الطُّرُق، وفُقدان الأمْن، الأمر الذي شغل الناسَ عن العمل في التجارة برًّا وبحرًا، وعن الإنتاج الكافي في الحقول، وعن الرعي في البراري، فأهل القرية أحيانًا لا يستطيعون الاتصالَ بالقُرى المجاورة لهم لشراء ما يحتاجونه ممَّا لا يوجد لديهم، وهو متوفِّر في تلك القرى أو بعضها و في الولاية والسياسة ، تشتَّتِ الجزيرةُ العربية عامَّة، وأقاليم نجد خاصَّة، وصار في كلِّ قرية أناسٌ من أهلها يتصارعون على حُكمها، ويقتل بعضُهم بعضًا، واستقلَّت كلُّ قرية عن جاراتها، وصار لها أميرٌ وأسوار، وحصون تحارِب مِن ورائها القرى المجاورة، ومَن يطوف بها ممَّن يخافونه . و تورد المصادر أنه لم تكن الدولة العثمانية آنذاك باسطة سيطرتها على كل الجزيرة العربية خاصة نجد و كان نفوذها فقط في مكة و المدينة و الطائف ، و أهملت بقية أنحاء الجزيرة ، و لم ينشروا أحكام الشريعة الاسلامية بين الناس و لم يحكموا بالعدل بينهم ، و لم يهتموا بتصحيح عقائد الناس لأنهم لا يرون تلك الأعمال التي تفعل عند القبور من الشركيات ، بل كانوا يرونها زلفى و تقربا إلى الله . أه تلك هي البيئة التي خرجت فيها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول الشيخ عن دعوته في مقدمة كتابه الأصول الثلاثة: " اعلم – رحمك الله – أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم ، وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة " . " الثانية : العمل به " أي : بما تعلمنا من ديننا وأدائه المستقيم . " الثالثة : الدعوة إليه " . " الرابعة : الصبر على الأذى فيه " بدأت دعوة الشيخ في رفق و لين كما قدمنا نموذجا في إنكاره على من يدعو زيد بن الخطاب بقوله له " أدعوا الله فإنه خير من زيد" ، و مع ذلك لقي معارضة شديد أضطر على أثرها إلى الرحيل من مسقط رأسه العيينة متجها إلى الدرعية ، فالتقى بأمير الدرعية محمد بن سعود الذي آواه و اقتنع بفكره و استقرت دعوة الشيخ في قلبه وتعاهد الشيخان على حمل الدعوة على عاتقهم والدفاع عنها ، والدعوة للدين الصحيح ، ومحاربة البدع ، ونشر كل ذلك في جميع أرجاء جزيرة العرب ، بالحكمة و الموعظة الحسنة ، فإن لم تصلح الموعظة و الرفق عمدوا إلى فرض الأمر الواقع ، فإن حوربوا و صُدوا عن دعوتهم دافعوا عن دعوتهم و أنفسهم ، و كانوا يتوقعون ذلك ، و لم يبدأوا أحدا بقتال بل إن غيرهم من أتباع الدولة العثمانية في مكة و المدينة و الطائف ممن رأوا أن دعوة الشيخ سوف تقضي على ملكهم و على ما يأخذونه من سحت من اموال الناس نظير حماية القباب و القبور و الشواهد ، و لذا يقول الشيخ في رسائله (فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا و بين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا و قاتلونا و استحلوا دماءنا و أموالنا) الرسائل الشخصية، ص 114. ويقول أيضاً (وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا) الرسائل الشخصية، ص 38 و قال يدفع عن نفسه تكفير الناس (ما ذكر عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء،) الرسائل الشخصية، ص 58. وقال أيضاً (وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله) الرسائل الشخصية، ص 25.. بدأت دعوة الشيخ تنجح شيئا فشيئا و دخل الناس في التوحيد و نبذ الشرك و الخرافة و استقرت أنحاء نجد حين عمت سيطرة أتباع الشيخيين فقلّت المشاكل في مجتمع الجزيرة ، فانعدمت السرقات ، وحروب الفجور وشرب الخمور . وأصبحت الطرق أكثر أمناً وأماناً ، بعد أن كانت مصدر متاعب للناس ، وحركتهم ، حيث السطو والسرقات قبل انتشار الدعوة الوهابية ودعوتهم السمحة . و نتناول في الجزء الثاني انتشار دعوته خارج نجد ، و موقف الدولة العثمانية منها ، و محاولة القضاء عليها ، و أقوال منصفي و عقلاء الأمة الاسلامية ، و من غير المسلمين في تلك الدعوة المباركة صلاح الطنبولي [email protected]