يوم الأحد 30 أغسطس الماضي ، أصدر مكتب القائم بأعمال النائب العام بيانا عاجلا وأرسله إلى مختلف وسائل الإعلام ، يحظر فيه النشر عن مجريات التحقيق في قضية فساد وزارة الزراعة ، وكان ذلك قبل أن يعرف الرأي العام أساسا ما هي هذه القضية ، وكان البيان من أغرب القرارات التي تصدر في هذا الشأن في سرعتها ، وجاء في الخطاب الذي عممه مكتب النائب العام ما نصه الحرفي : (بمناسبة التحقيقات التي تجريها النيابة العامة فى القضية التى تحمل رقم 673 لسنة 2015 ، والمعرفة اعلاميا برشوة بعض المسئولين بوزارة الزراعة ، نأمر بحظر النشر في القضية المشار إليها ، فى جميع وسائل الاعلام المسموعة والمرئية وكذلك جميع الصحف والمجلات القومية والحزبية واليومية والاسبوعية المحلية والاجنبية وغيرها من النشرات ايا كانت وكذا المواقع الاليكترونية وذلك لحين انتهاء التحقيقات فيها ، عدا البيانات التي تصدر من مكتب النائب العام بشأنها) . هذا قرار واضح من السلطة القضائية ممثلة في النيابة العامة ، وهو بداهة يلزم الحكومة قبل أن يلزم سائر أفراد الشعب ويلزم إعلام الحكومة قبل أن يلزم وسائل الإعلام الخاصة والمستقلة ، ولكن الذي حدث أن رئيس مجلس الوزراء المهندس إبراهيم محلب اقتحم على النيابة أعمالها وقطع عليها طريق التحقيق بإعلانه في تونس أن القضية لا يوجد بها متهمون غير أربعة أشخاص فقط وهم: وزير الزراعة صلاح هلال ومدير مكتبه محيي قدح، ورجل أعمال وصحفي لم يفصح عن اسمهما ، ورغم أن ما قاله محلب ليس دقيقا ، لأن من يشير إليه بأنه صحفي ليس صحفيا بشهادة نقابة الصحفيين المصريين التي استند إليها القضاء المصري ذاته مرارا وتكرارا في مثل هذه الحالات ، بل وصل الأمر إلى أن تحرك النقابة قضية ضد محمد فودة ، بتهمة انتحال صفة صحفي ، غير أن الأهم من ذلك هو اجتراء الحكومة ممثلة في رئيس الوزراء على أعمال القضاء ، والإعلان عن القضية بحدود معينة رغم أنها ما زالت في حوزة النيابة العامة ولم تنته التحقيقات فيها بعد ، فماذا لو أن تحقيقات النيابة سحبت خيطا وصل إلى اتهام وزير آخر أو أكثر في تلك القضية ، وهو احتمال وارد ، فكيف يكون حال الحكومة وقتها ، وكيف تكون صورتها أمام الرأي العام وقد كذبت عليه وضللته ودافعت زورا عن أعضائها وهم متهمون أمام النيابة . أما الجانب الآخر والخطير في ذلك ، فهو جرأة الحكومة على خرق قرار حظر النشر في القضية ، وهو مع الأسف ما عادت وكررته في بيان رسمي صدر بعد اجتماعها الأسبوعي ، أكدت فيه من جديد (أن قضية وزارة الزراعة فى يد القضاء العادل، وأنها لم تمس أحداً من الوزراء سوى وزير الزراعة السابق فقط، وأن ما حدث فى هذه القضية يؤكد الشفافية التامة وغير المسبوقة للمجلس وللقيادة السياسية، وأنه لا تستر على أى فساد كان) ، حسنا ، إذا كانت القضية في يد القضاء "العادل" ، فلماذا تحرج القضاء وتقطع عليه الطريق وتقول أنها لا تمس أحد من الوزراء الآخرين ، لماذا لا تترك ذلك للقضاء وتحقيقاته وقراراته ، لماذا تتعجل أمرك ، ومما تخاف ، كما أنه إذا كنت تحرص على مخاطبة العالم في كل نازلة بأن لديك قضاء مستقلا وشامخا ، لماذا تأتي من السلوك والتصريحات ما يجرح تلك الشهادة ، ويعطي الانطباع بتدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء وتوجيهه ومحاصرته وتحديد نطاق تحقيقاته ، لماذا تفعل ذلك ، وكيف واتت الحكومة الشجاعة على أن تضرب المثل السيء للشعب وللإعلام بالاستهانة بقرارات النيابة بحظر النشر في القضية ، وتقوم هي بخرق القرار ونشر "ادعاءات" لا يمكن التحقق منها إلا ببيان رسمي من النيابة العامة وحدها . أعتقد أنا ما حدث ، ويحدث ، في تلك الواقعة ، كفيل بالكشف عن مدى التخبط والاضطراب والفوضى التي تحكم أعمال الحكومة ، وغياب فكرة المؤسسية والفصل بين السلطات عن أعمال الدولة بكاملها .