لم يكن بدعاً أن يكون الفقيه أو المحدث شاعراً أو أديباً، فقد كان فريق كبير منهم ينظم الشعر مثل الشافعى، وابن حزم، والسيوطى، وابن قتيبة، وفى العصر الحديث الباقورى، والشعراوى، وأحمد عمر هاشم، وغيرهم ... وحديثنا اليوم مع واحد من هؤلاء الأعلام الفقهاء، الإمام الحافظ ابن حجر العسقلانى (773-852ه) الذى اشتهر بالقضاء وعلم الحديث وكان أمير المؤمنين فيه، ووضع خبرته الطويلة فى كتابه الحجة "فتح البارى شرح صحيح البخارى" الذى قال عنه الإمام الشوكانى عندما طُلب منه شرح صحيح البخارى فقال: "لا هجرة بعد الفتح"، وقد قرض الرجل الشعر فى فترة من حياته قبل أن يتفرغ تماماً للحديث وعلومه، وخلف داووين ذكرها الإمام السخاوى (902ه) فى ترجمته لا بن حجر، وقد جمع شعره ونشره الدكتور السيد أبوالفضل أستاذ اللغة العربية بالجامعة العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند (التى تخصصت فى نشر معظم كتب ابن حجر قبل أن تطبع فى مصر والوطن العربى)، ونشره سنة 1962، وقدم له بمقدمة مفيدة شافية، ومنذ صدوره قبل نصف قرن لم نرى دراسة شافية وافية حول شعر ابن حجر وأغراضه واتجاهاته وموضوعاته، نقدمه اليوم فى دراستنا المتواضعة لعلها تغرى بعض المتخصصين بوضعه على أجندة أعمالهم. والإمام ابن حجر هو أبوالفضل، شهاب الدين، أحمد بن على، بن محمد بن محمد بن على بن أحمد الشافعى، العسقلانى الأصل والمصرى الكنانى القاهرى، ولد فى 23 شعبان سنة773ه بالقاهرة، وتوفى أبواه وهو صغير، ونشأ يتيماً فى كنف أحد أوصيائه الشيخ رضى الدين الخروبى، وحفظ القرآن وهو فى سن التاسعة، ثم تلقى العلوم الدينية والعربية مثل: الحديث والفقه، والنحو، والأدب، والتاريخ على أعلام عصره، وأكثر من المسموع فسمع العالى والنازل وأخذ عن الشيوخ والأقران، ورحل فى رحلات كثيرة فى طلب العلم وألف الكثير من الكتب، وتولى مناصب كثيرة فى القضاء وصل فيه إلى قاضى القضاة ، والتدريس والخطابة التى مارسها فى الجامع الأزهر، وجامع عمرو.
كان ابن حجر شاعراً مطبوعاً قال الشعر وأبدع فيه وأجاد، وكان شعره تقليداً يغلب عليه التنميق اللفظى والزخرفى والبلاغى ، وتطرق فيه لموضوعات شتى وكان لشعره منزلة عظيمة عند معاصريه فقال ابن العماد (ت1098ه) : "أولع بالنظم وقال الشعر الكثير المليح"، وقال السخاوى(ت902ه) : "وأنشد من نظمه فى المحافل وخطب من ديوانيه على المنابر لبليغ نظمه ونثره". وتنوع شعره بين النبويات، والملوكيات، والأخوانيات، والغزل ثم الأغراض المختلفة ثم الموشحات ثم المقطوعات.
ففى قصيدة يمدح فيها النبى صلى الله عليه وسلم كتبها يعارض بها البوصيرى فى بردته وقد بدأها بالغزل كما فعل كعب فى بانت سعاد، والبوصيرى من قبل فقال: ما دمت فى سفن الهوى تجر بى لا نافعى عقلى ولا تجريبى برح الخفاء بحب من ولهى به أورى توقد مهجتى ولهيبى يا عاذلى أو ما علمت بأننى لا أسمع المكروه فى المحبوب طرفى تنزه فى المحبوب ومسمعى عن كل لوم فيه أو تأنيب دع عنك ما تهذى به عندى فما كلفت إصلاحى ولا تهذيب اخطأت فى عذلى لن مصيبتى من سهم طرف للفؤاد مصيب ما كان أعذب مدة مرت لنا إنى لأستحلى بها تعذيبى عوضت عن قربى نوى وعن الرضى سخطاً وما عهد اللقا بقريب بعد ذلك يعدد الشاعر ابن حجر مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم الذى وله بحبه نقتطف من قصيدته هذه الأبيات التى ترصد مرحلة افسراء والمعراج وما حدث فيها من معجزات ومنح أعطاها الله لنبيه المصطفى . ولكم مناقب أعجزت عن عدها من حافظ واع ومن حيسوب يا سيد الرسل الذى منهاجه حاو كمال الفضل والتهذيب أسرى بجسمك للسماء فبشرت أفلاكها وحبتك بالترحيب فعلوت ثم دنوت ثم بلغت ما لا ينبغى لسواك من تقريب وخصصت فضلاً بالشفاعة فى غد ومقامك المحمود والمحبوب والأنبياء وقد رفعت جلالة فى الحشر تحت لوائك المنصوب يحبوك ربك من محامده التى تعطى بها ما شئت من مطلوب ومجموع ما خص به الرسول صلى عليه وسلم من مدح سبع قصائد طويلة، ثم قصائد الملوكيات التى مدح ملوك عصره وخص منهم بالذكر ملك اليمن الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل العباسى بن المجاهد على وابن الملك الناصر أحمد، والملك المنصور عبدالعزيز صاحب تونس، والخليفة العباسى المستعين عندما تولى السلطنة المملوكية سنة 815ه إلى جانب منصب الخلافة. وقد مدح الأمراء والقضاة والشيوخ وقد كتب إلى القاضى مجدالدين بن مكناس يعزيه فى وفاة ابنه فى قصيدة مؤثرة: آيات وصلك يتلوها على الناس صب تحركه الذكرى إلى التأسى ووعد وصلك دين لا وفاء له فليته كان بالهجران يا قاسى كأسى مزجت بأحزانى ولى جسد عار من العار لكن بالضنا كاسى وعفت بعدك طعم الصبر حين غدا كأساً إذا ارتشفت لم ينتش الحاسى يا ثانيا عطفه عن مفرد قد بات يضرب أخماساً بأسداس ومن إذا لاح فى خديه لى خضر قابلت رجوائى من لقياه باليأس لا يخشى خدك سلواناً لعارضة فإنه لجراح القلب كالآسى قف تلق جفنى بعد الدمع صب ما فى وقوفك عند الصب من بأس