تصريحات كبار المسؤولين في مصر حول أوضاع الشباب وتصورهم لحل مشكلاتهم وفي مقدمتها مشكلة البطالة تعكس صورة المستقبل الذي يرونه بل ويريدونه ليس للشباب المصري وإنما لمصر ذاتها؛ فمصر الآن تتجه وبقوة نحو احتكار وسيطرة فئات بعينها على السلطة والثروة، وفي المقابل يطلب من شعبها المطحون الكدح والتقشف والتبرع ومن شبابها الرضا بالدون والذل والهوان. ودعوة رئيس الوزراء الشباب في مصر للعمل كسائقي توك توك تلخص الطريقة التي ينظر بها المسؤولين في مصر للشباب باعتبارهم عالة على المجتمع وعبء على الدولة في حين ينظر إليهم في الدول المحترمة والدول المتقدمة على أنهم ثروة وعماد النهضة. وتصريحات رئيس الوزراء بشأن مشكلة البطالة في مصر لم تأت خارج السياق العام لنهج الحكومات المتعاقبة وهي بالمناسبة لا تعتبر جديدة ولا تمثل صدمة، فالرئيس السيسي أعلن في حملته الإنتخابية عن مشروع ألف عربية خضار كحل لأزمة البطالة لدى الشباب في مصر، ووزارة القوى العاملة لديها منذ سنوات خطط وبرامج طموحة لتأهيل الشباب وبخاصة خريجي المعاهد العليا والجامعات للعمل كنجارين وحدادين وسباكين وهي مهن متوفرة وتدر دخلًا يوميًا يتراوح ما بين 100-200 جنيه يوميًا كما يقول رئيس الوزراء! ودعوة رئيس الوزراء تعكس فشل السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة، وتعكس فشلها في استغلال الثروة البشرية التي حققت المعجزات للدول المتقدمة في جميع أنحاء العالم. والتوك توك الذي يرى فيه رئيس الوزاء حلًا لمشكلة البطالة يمثل كارثة سياسية واقتصادية واجتماعية، فالظواهر الجديدة في أي مجتمع من المجتمعات تفرز الثقافة الخاصة بها وتفرز كذلك العادات التي تميزها عن غيرها من الظواهر التي تمر بالمجتمع والتي تترك بصمتها وآثارها في سلوكيات الناس وعاداتهم اليومية، ومن تلك الظواهر التي انتقلت من الهند إلى مصر انتشار العربات الصغيرة التي يطلقون عليها في مصر "التوك التوك" وفي الهند "الركشة"، وهذا النوع من العربات أفرز الكثير من السلبيات في المجتمعات التي انتشر فيها ومنها:
أولًا: فقدان الأمن والسلامة:
تفتقد عربات التوك توك لأبسط وسائل الأمن والسلامة وتزداد خطورتها في حالة سيرها على الطرقات الرئيسية وسط السيارات والشاحنات، وحوادث التوك توك مروعة وقاتلة. والتوك توك أصبح أداة من الأدوات التي يستخدمها المنحرفون في ارتكاب جرائمهم في مناطق كثيرة، فالبلطجية والخارجون على القانون يستخدمونه في عمليات الخطف والاغتصاب ويستخدمونه في السرقة ويستفيدون منه في سرعة الهروب من مكان الجريمة. ثانيا: التلوث بكل أنواعه
ساهم هذا النوع من العربات في انتشار التلوث بكل أنواعه: التلوث السمعي والبصري فالحركة العشوائية لهذه العربات في كل الاتجاهات وبدون مقدمات تثير الاشمئزاز والنفور وهذه العربات تصدر عنها أصوات مرتفعة للغاية من خلال مكبرات الصوت التي توضع فيها وتنطلق منها الأغاني الهابطة بما تحتويه من كلمات قبيحة وخارجة وأصوات نشاز وموسيقى صاخبة تصم الآذان وتؤذي المشاعر وتوقظ النيام وتحرم الكثير من الناس من الراحة والهدوء ليس في الشوارع وإنما داخل بيوتهم.
ثالثًا: الإضرار بميزانية الأسر
أجرة استخدام التوك توك كوسيلة مواصلات تعتبر مرتفعة مقارنة بوسائل التنقل الأخرى بما فيها سيارات الأجرة "التاكسي"، ونظراً لكثرة عددها وسهولة الحصول عليها في أي وقت وأي مكان يلجأ الكثير من أفراد الأسرة إلى استخدام هذه الوسيلة رغم ارتفاع تكلفتها مقارنة بتكلفة وسائل النقل الآخرى، وهو ما يؤثر سلبا على ميزانية الأسرة المحدودة.
رابعًا: زيادة حجم مشكلة الازدحام
أسهمت عربات التوك توك في زيادة وتعقيد مشكلة الازدحام المروري لأنها تعيق الحركة المرورية، والكثير من سائقي هذه العربات يسيرون في عكس الاتجاه ولا يرون في ذلك بأسًا، وإذا اعترض معترض على هذا السلوك الخاطئ كان جزاءه الشتم والسب وربما اعتدي عليه وتعرض للضرب. والتوك توك أصبح السبب الرئيسي للفوضى والازدحام الذي تعاني منه المدن التي يسمح للتوك توك بالسير فيها، ولذلك صدرت قرارات في بعض المحافظات بمنع سيرها في الطرق الرئيسية.
خامسًا: حرمان الناس من الرياضة
عربات التوك توك حرمت الكثير من الناس في مصر من الرياضة (الإجبارية) التي كانوا يمارسونها في الماضي وهي رياضة المشي عند الذهاب للعمل أو المدرسة أو السوق أو لأداء الواجبات الاجتماعية، ورياضة المشي تُسهم بشكل كبير في محاربة الكثير من الأمراض كالسمنة والسكري والضغط وغيرها. والكثيرون بما فيهم الشباب والأطفال باتوا يستخدمون التوك توك لقضاء حوائجهم البسيطة في أماكن لا يزيد بعدها عن الأماكن التي يسكنون فيها عن مئات المترات.
سادسًا: الثراء غير المشروع
يقف وراء انتشار هذا النوع من العربات بعض الشخصيات التي حققت ثراء كبيرًا من استيرادها من الخارج وتسويقها وبيعها في مصر على الرغم من عدم حصولها على ترخيص من الجهات المعنية في الدولة، والتربح من وراء نشر هذه العربات في مصر لم يحظ بأي اهتمام رغم وضوح الهدف من نشرها وهو تحقيق الربح حتى ولو كان ذلك على حساب قيم وأخلاقيات المجتمع وعلى حساب مستقبل الوطن المتمثل في هذه الحالة في دعم وتطوير المنتج الوطني.
سابعًا: المخاطر الاقتصادية للتوك توك
التوسع في استيراد التوك توك ودعوة الشباب للعمل كسائقي توك توك تعتبر بمثابة إعلان عن عجز الدولة وفشل المجتمع في حل مشكلة المواصلات ومشكلة البطالة، وأخطر أمر في موضوع هذه العربات هو تعطيل التطور الصناعي وإلحاق الضرر بالصناعات الوطنية، فحل أزمة البطالة المنتشرة بين الشباب عن طريق استيراد هذه العربات حل يتم بالعشوائية وهو حل غير عملي وغير منطقي. ومعرفة حجم هذا الخطر تتم من خلال المقارنة بين الهند وبين مصر في مجال صناعة السيارات وبخاصة السيارات الصغيرة فقد نجحت الهند في إنتاج أصغر سيارة في العالم وبسعر لا يتجاوز 2500 دولار أمريكي وهو تقريبًا نفس السعر الذي تباع به هذه العربات في مصر، فالهندي يستطيع بهذا المبلغ شراء سيارة وطنية محلية الصنع مائة في المائة، أما المواطن المصري فيشتري بهذا المبلغ هذه العربة ذات الثلاث عجلات وبهذا الشكل المضحك.
التوك توك وصناعة السيارات
التوك توك كان من الممكن القبول به ولفترة مرحلية في حالة واحدة فقط وهي كون هذه العربات منتج وطني يُسهم في حل مشكلة معينة أو عدة مشكلات كالبطالة والازدحام المروري مثلًا في بعض المناطق، ويكون نواة لتطوير منتجات وطنية تكون قادرة على المنافسة خارجيًا وهذا بالضبط ما فعلته وقامت به على خير وجه الهند في مجال صناعة السيارات الذي حققت فيه نجاحات كبيرة بينما تعثرت هذه الصناعة في مصر ولم تستطع إلى الآن إنتاج سيارة وطنية مائة في المائة، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول أسباب عزوف الدول العربية والمستثمرين العرب عن دخول مجال صناعة السيارات رغم توفر الكثير من أسباب نجاح هذه الصناعة في الدول العربية حيث وفرة رؤوس الأموال ورخص العمالة وتوفر المواد الخام وإمكانية استيراد التكنولوجيا من الخارج ووجود سوق واعد للسيارات في هذه الدول.
* باحث وكاتب عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين المشرف العام على موقع: www.t3arfo.com