مِن روعةِ معيةِ الله أنْ ترى فى الإنسانِ آدابَ الأنسنة، وأن يغادر مَبَارِكَ الذاتِ إلى فضاءات الروح التى لا تُحد ونور البصيرة الذى لا يزيغ، ولا يأتى ذلك إلا عبر الباب الذى ولجه سيدنا وسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، فكلُّ الطرقِ مسدودة، وكلُّ الأبوابِ موصدة، وكلُّ الدروبِ مفصولة غير موصولة إلاَّ الدرب الذى عليه سار؛ ومن اقتدى به اهتدى، ومن رغب عنه اختلَّ وذلَّ وضلَّ. وللإسلام قناعته الفكرية التى مرجعها العقل، وللإيمان سعادته القلبية التى محلها الفؤاد، لذا فنفسُ المؤمن تُحلق فى آفاق الرضا والأمن ولو كانت حبيسة جدران أربعة، ويتحلى بالإيجابية مهما قلَّتْ موارده أو جفَّ نبْعُه، والمؤمن لديه من الذكاء العاطفى ما يجعل ملكاته تتجدد، وعنده من الفراسة ما يسمح لطاقاته أن تتوالد وفق انسجامٍ أشبه بالآلي؛ أو تناغم أقرب للدفع الذاتي، فشعاره..." وجعلنى مباركاً أينما كنت". وهذه المعتقدات التى تكوِّن فكره وتسيطر على جوارحه لا تتحول إلى بذلٍ وتضحيات إلا بالإيمان، فهو الخميرة التى تُشحَنُ به طاقته، والفتيلة التى يُضاءُ بها مصباحه، وحين يتخلل الإيمان خلايا المرء وتتشربه خلجاته... يدرك ماهيته، ويتعرف على كهوف نفسه وسراديب ذاته، فيمتطى بعير الشكر أو ناقة الصبر؛ غير مبالٍ بدنياه أقبلت أم أدبرت؛ يتساوى ترابُ الأرض عنده وتبرها، وكأنه وُلد من جديد، فيسأل من هو؟ وما غايته من الوجود؟ فيصبح لوجوده غاية ولسعيه هدف، وفى كل حركة من حركاته قصدٌ، وفى كل سكنة من سكناته نية. ويرحم الله هشام بن عبد الملك حين وصف عمر بن عبد العزيز قائلاً: (ما أحسبُ عمر خطا خطوةً قط إلا وله فيها نية)، وهنا تكمن عظمة هذا الخليفة الذى وفقه الله لأن يصلح دولة فى عامين، وبعضنا قد يحتاج لأعوامٍ لإصلاح غرفته التى يقطنها، فحين يهب المسلم حياته لخالقه وينذر روحه وسعيه لذلك يشعر بلذة الحبِّ والقرب والمعية، فالحبُّ ليس شعوراً فقط، لكنه شعورٌ يغذيه فعل الحب، فمن غرس نبتةً وتعاهدها تنشأ بينه وبينها مودة ومراقبة، ومن تقتنى بعض الطيور وتقوم بإطعامها وتربيتها تنشأ بينهما علاقة حب ورحمة، فالمسلم الحقيقى لا تطيب نفسه ولا يستعذب حبَّه لله إلا بقدر ما يبذل من المجاهدة والإعراض عن الهوى، وإقباله على الطاعات ونصرة دين الله وإعلاء كلمته. ومن أقبل على الله رأى من إقبال الله عليه عجباً؛ فأقبل وسترى.