عفوًا قرائى الكرام فإن ما يغبطنى عليه الأحباب من ثقافة ودراسات ودرجات علمية؛ لم يسعفنى لفهم هذه الفقرة الذى استفتحت بها كاتبة ليبرالية مقالاً فى "الشرق الأوسط" تحت عنوان "الخفى فى فوز الأحزاب الدينية"؛ حيث قالت: "صحيح أنّ صناديق الاقتراع آلية ديمقراطية من خلالها نُدرك خيارات الشعوب والأحزاب الأكثر قربًا من تطلعاتهم ومشاكلهم، ولكن هناك فرقا بين الاختيار العقلانى الموجه وسلوك انتخابى فى التصويت يستبطن غير ما يُظهر وتتحكم فيه مجموعة من الأسباب المركبة والمتشابكة. لذلك، فإن أهميّة أى نتائج انتخابية إنما تكمن بالأساس فى كونها مادّة تُمكننا من تحليل دلالات تلك النتائج والمقاصد التى تختبئ وراء لعبة توزيع الأصوات التى تتجاذب فيها عدّة تراكيب اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية وثقافية. فصناديق الاقتراع لا تبوح لنا سوى بنسب التصويت، ممّا يعنى أنّه ليس أكثر من بوح جزئى منقوص التفاصيل والأسرار".. انتهت الفقرة. وسامحونى إن لجأت إليكم لعل أحدكم يمتلك من الفلسفة ما يمكنه من فهم أفضل من فهمى المتواضع لهذه الفذلكة والحذلقة فى مقال كاتبتنا الليبرالية الديمقراطية المستنيرة، فما فهمته أنا (بعد قراءة متكررة) أن صناديق الاقتراع الانتخابى هى وسيلة لمعرفة خيارات الشعوب، ولكنها ليست صادقة أو دقيقة لأن نتائجها منقوصة التفاصيل والأسرار، وفى ضوء هذا الفهم فإننى قد أتفق معها إذا كانت هذه الصناديق نتاج عملية تزوير لإرادة الشعب، سواء تزوير صريح بالتدخل والتلاعب فى الأوراق واللجان الذى تفعله الأنظمة الشمولية فى بلادنا صاحبة نسبة ال 99.9% الشهيرة، أو تزوير غير مباشر باستخدام أجهزة الأمن والإعلام السلطوية للتأثير على جموع الناخبين بالضغط عليها وتوجيه قناعاتها؛ وكذلك بتفصيل اللوائح المنظمة للانتخابات بشكل يمكن الحكومة من تزييف النتائج وتجييرها لصالحها؛ أما إذا اتفقنا على أن الانتخابات تمت (فى المجمل) بنزاهة وشفافية؛ وأن نسبة المخالفات فيها لا تصل إلى الحد المؤثر فى مصداقية نتائجها، فلا يسع أى مؤمن بالديمقراطية إلا التسليم بها وإن لم توافق توجهاته السياسية على أن يكون الموعد فى الانتخابات المقبلة؛ فهذا ألف باء الديمقراطية. فعندما تقاطرت دول شرق أوروبا للانعتاق من الشيوعية منذ عقدين من الزمان، وحرصت كل دولة منها أن يكون بابا الفاتيكان أول زائرٍ لها لتأكيد الطلاق البائن مع الإلحاد الماركسى، فهذه إرادات شعوب حرة مناضلة، وأما إذا سارعت هذه الدول بعد ذلك إلى الهرولة باتجاه الغرب والسعى لعضوية الاتحاد الأوروبى وحلف النيتو، فهذه رغبات جماهير تتطلع للرفاهية بعد طول معاناة من الحرمان فى ظل الشيوعية. كل هذه الظواهر معقولة ومقبولة؛ وموضوعية ومنطقية، ولكن ما لا يمكن أن يقبله عقلٌ ولا منطق، ويستلزم التحليل والتعليل والتفسير والتحذير، أن تفوز أحزاب ذات مرجعية إسلامية فى بلدان تبلغ نسبة المسلمين فيها 95% فأكثر، بعد عقود مارست فيها الأنظمة القمعية ضدها كل صنوف الاضطهاد والإقصاء والاستئصال؛ على مرأى ومسمع من الشعوب التى كانت مغلوبة على أمرها، فلما انتفضت هذه الشعوب وسُمح لها أن تقول رأيها بحرية وديمقراطية لأول مرة؛ فاختارت من تثق به، كفر دعاة الديمقراطية بها وأصابتهم لوثة من الهذيان المسعور، فإن كان فهمى خاطئًا، ممكن حد يفَهِّمنى؟؟!!.