لم تكن النتائج الأولية لانتخابات المرحلة الأولى لبرلمان الثورة في مصر مفاجئة لأحد، لا للإسلاميين أنفسهم، ولا لخصومهم من العلمانيين واليساريين، ولا لقادة الجيش المصري، الذين يحكمون البلاد حاليًا، ولا للسياسيين والإعلاميين الغربيين. فكل هذه الأطراف، ومنذ عقود طويلة، كانت متيقنة من الشعبية الجارفة للتيار الإسلامي، ليس في مصر فقط، وإنما في العالم العربي كله. فمنذ الاستقلال الوطني عن الاحتلال الأوروبي للبلاد العربية، عمل الغرب قبل أن يرحل عن عالمنا العربي على الوقوف بكل ما يملك ضد هذا اليوم التاريخي ومنع حدوثه، فعمل على ضمان أن يسلم مقاليد بلادنا إلى نخبة رباها ورعاها على عينه، وسقاها ثقافته وقيمه وعلومه، وأشربها في نفس الوقت كراهية الجذور والهوية العربية الإسلامية. فعل الغرب كل ذلك حتى يمنع أن تستعيد بلادنا هويتها التاريخية والطبيعية، وحتى يمنع أن يتصل ماضي هذه الأمة مع حاضرها، لأنه متيقن أن في ذلك خطورة كبيرة على مصالحه في هذه المنطقة. راوغ الغرب وتآمر وخدع، خوفًا من هذا اليوم، لكنه لم يستطع أن يفعل شيئًا حينما جاء أمر الله وقامت ثورة المصريين الرائعة في 25 يناير. مبارك.. تزوير واغتصاب وكان حكام مصر العسكريون ومعاونوهم من العلمانيين يعلمون جيدًا أنهم يغتصبون حقًا ليس لهم، وبعد آخر انتخابات صورية مزورة تعرض نظام مبارك البائد لانتقادات غربية، فتصدى لها رئيس البرلمان في ذلك الوقت د. أحمد فتحي سرور (المسجون حاليًا) وذكّر الغربيين بأن النظام لو طبق المعايير الغربية للديمقراطية فسوف تأتي بالإسلاميين الذين لن يتعاونوا مع الغرب. أمَا وقد قامت الثورة، واسترد الشعب المصري حقوقه المغتصبة، فكان أهمها الانتخابات الحرة بالرقم القومي التي أذهلت العالم، وخرج بعض الكتَّاب من أمثال الصحفي البريطاني روبرت فيسك ليؤكد في صحيفة "الإندبندنت" أن على الغرب أن يشعر بالخزي بعد الانتخابات المصرية، ومعنى قوله أن ما طبقه المصريون من معايير للشفافية والنزاهة إنما هي أعلى من المعايير في كثير من الدول الغربية. النتائج الأولية التي تشير إلى أن الإسلاميين (أحزاب "الحرية والعدالة" و "النور" و"الوسط") سوف تحصل على حوالي 60% من مقاعد برلمان الثورة، جعلت الغربيين يقولون إنهم مستعدون للتعامل مع الأطراف التي ستفرزها الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر، فبعد الثورة واستيقاظ المصريين من ثباتهم لن يكون هناك مجال للتآمر والخداع الغربي، الذي لو حدث من أجل الالتفاف عليه، فإن التربة الثورية ما زالت خصبة وسوف تمنع ذلك. المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يحكم مصر حاليًا، لم يكن أمامه هو الآخر إلا الانحياز للعقل والمنطق كما انحاز إلى الثورة وحماها، فأعلن منذ البداية أنه يقف على مسافة واحدة من كل التيارات والأحزاب والقوى السياسية، وأنه ليس من المصلحة محاباة طرف على حساب طرف آخر، فأجرى الانتخابات الحرة وأمنها، رغم الانفلات الأمني الواضح، لأنه يدرك أن من أبجديات ما بعد الثورة أن تتم الانتخابات بنزاهة كاملة. ومنذ البداية أعلن قادة الجيش أنهم لا يخافون ولا يتوجسون من الإسلاميين، فهم مصريون ولهم كامل الحقوق، وإذا جاءت بهم الانتخابات فلا قول بعد كلمة الشعب. لم يأبه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتخويف العلمانيين من الإسلاميين، رغم مستشاري السوء العلمانيين الذين كان يستقبلهم يوميًا ويستمع إليهم، فالمجلس سار في طريق واحد من البداية، وهو حراسة الثورة من أجل تحقيق أهدافها، وكان يدرك أن الإسلاميين يتمتعون بقاعدة شعبية كبيرة، وأن العلمانيين لا شعبية لهم، لكنه لم يكن في يده أن يفعل شيئًا في هذا الأمر، لأنه لو حدث لاشتعلت البلاد. العلمانيون كانوا يعلمون أنه من المحتم، إذا سارت الأمور على طبيعتها، أن تصل البلاد إلى هذه النتيجة، لذلك فقد جُنَّ جنونهم، وأصبحوا يديرون معركتهم مع الإسلاميين في الإعلام وفي صالونات الثقافة والفكر وليس في الشارع وبين الجماهير، فهم يعلمون أن الشارع لا يقتنع بما يقولون، فهم يرددون مقولات الغرب ويعتمدون مشروعه. مراهنة علمانية خاسرة من أجل ذلك كانت مراهنة العلمانيين على القنوات الفضائية الخاصة، بعد أن تحكموا في أغلبها، وعلى برامج "التوك شو" تحديدًا، لمهاجمة الإسلاميين ومشروعهم وتخويف الشارع منهم، وكذلك تخويف المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتخويف الغرب أيضًا. والغريب أن مُلَّاك هذه الفضائيات الخاصة هم من رجال الأعمال وفلول العهد البائد الذين نهبوا المليارات من أموال المصريين، وكان من الواجب بعد ثورة 25 يناير فضحهم وعزلهم، لكن العلمانيين تحالفوا معهم لكي يستغلوا فضائياتهم في سب وتشويه الإسلاميين والتحذير منهم. كان المشهد في الشهور الماضية داخل هذه الفضائيات هو البرامج المستمرة التي لا تكاد تنتهي، والتي تستضيف الكتَّاب والصحفيين والسياسيين اليساريين والأقباط والليبراليين، ويمنع منها الإسلاميين حتى لا يدافعوا عن أنفسهم. في إحدى هذه البرامج وصل الجنون العلماني إلى أعلى مراحله حينما طالب رئيس تحرير سابق لصحيفة يسارية، المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتصدي للإسلاميين و"قصقصة ريشهم" و "تكسير عضلاتهم"، في أعقاب آخر مليونية وما ترتب عليها من أحداث، بدلًا من أن يقر بأنه لولا هذه المليونية لمَا انتهت وثيقة المبادئ فوق الدستورية المشبوهة، ولما حدد المجلس الأعلى للقوات المسلحة موعدًا للانتخابات الرئاسية، ولما قبل المجلس استقالة الحكومة الضعيفة المرتعشة. ومما يزيد من عصبية التيارات العلمانية من النتائج الأولية لبرلمان الثورة أن التفوق الإسلامي فيها مقدمة لنجاح آخر قادم وهو نجاح الإسلاميين في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعني أن مصر أصبحت بشكل كامل في قبضة الإسلاميين، وعندها لن يكون لهذه التيارات العلمانية وجود ولا قول ولا قيمة. إلا إن ما يهدد ذلك هو وجود ثلاثة مرشحين إسلاميين للرئاسة، وهو ما يعني تفتيت الصوت الإسلامي، مما يجعل هناك إمكانية لنجاح أحد المرشحين العلمانيين. ولعل اللغط الكبير الذي ساد الأجواء المصرية لشهور طويلة حول وثيقة المبادئ فوق الدستورية، وساهم في تبريد الثورة، مرجعه الأساسي هو تنفيذ المجلس الأعلى للقوات المسلحة لنصائح العلمانيين، خوفًا من النجاح الإسلامي المنتظر، وإمكانية أن يقوم الإسلاميون بوضع دستور ينتقص من مكاسب الشعب المصري في الحريات العامة والحقوق الدستورية والقانونية. وهو أمر مبالغ فيه من العلمانيين، لأن الدستور يضعه الشعب، ولن يغفل الإسلاميون أن تكون لجنة وضع الدستور ممثلة لجميع أطياف الشعب المصري وتياراته الفكرية، شريطة ألا يصطدم ذلك بالهوية العربية الإسلامية للبلاد. وقد جاءت الانتخابات البرلمانية المصرية لتهدئ الاحتقان الذي حدث في البلاد في أعقاب المواجهات الساخنة بين الثوار في ميدان التحرير وبين قوات مشتركة من الأمن والجيش، والتي أودت بحياة واحد وأربعين من شباب ميدان التحرير. وكان هذا الاحتقان مرشحًا للتفاقم، خاصة مع رفض ميدان التحرير للدكتور كمال الجنزوري الذي اختاره المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتشكيل حكومة إنقاذ وطني خلفًا لحكومة د. عصام شرف الضعيفة والمرتعشة، ومع رفض الشباب فض اعتصامهم ومغادرة الميدان، وكذلك مع رفضهم المشاركة في الانتخابات، بل إن التصعيد وصل لمنتهاه حينما أعلن بعض الثوار أنهم لن يعترفوا بنتائج الانتخابات. كانت الأوضاع قبل الانتخابات مخيفة وغير مطمئنة، وكان الجميع يتحدث عن مجازر دموية وأعمال بلطجة في جميع الدوائر، إلا إن الأحداث التي سبقت الانتخابات جعلت القيادة العسكرية تأخذ تأمين الانتخابات تحديًا استراتيجيًا لها، فخططت لكي تنجح في التحدي، وهو ما حدث، وأدار الجيش الانتخابات بشكل يدعو للفخر والإعجاب، حيث لم يجد البلطجية والفلول وأصحاب المؤامرات مكانًا لهم لاستغلال الظروف وإشاعة الفوضى في البلاد. عبور إلى بر الأمان وإذا اكتملت الانتخابات بهذه الإدارة العسكرية الحديدية، فإن معنى ذلك أن المصريين قد عبروا بثورتهم إلى بر الأمان، وهو ما يعطيهم ثقة بأنفسهم في إكمال المشوار بنفس القوة. لكن كثيرًا من المصريين أصبحوا يتساءلون: الجيش نفذ ما وعد به وهو قادر عليه، فلماذا أرخى قبضته على البلاد وسمح بالفوضى الأمنية ووقف يتفرج على مؤسسة الشرطة وهي تتعثر ولا تستطيع السيطرة على الأمور؟ سحبت أجواء الانتخابات البساط من تحت أقدام ثوار التحرير الذين صعّدوا من مطالبهم بشكل مبالغ فيه، بعد أن سارع الجميع للمشاركة، وأصبح الميدان خاليًا إلا من نفر قليل، وقد أعطى ذلك كله دفعة لحكومة الإنقاذ الوطني برئاسة د. كمال الجنزوري التي حظيت بدعم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي حشد الدعم لهذه الحكومة من جهات عديدة، ووافق على تشكيل مجلس استشاري لمساعدة الحكومة، وهو ما جعل الجنزوري والجيش معًا في موقع قوة، فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة اعتبر أن تشكيل حكومة الجنزوري شأن من شئون السيادة والتراجع عنه أمام ثوار التحرير لن يمكِّنه من إدارة شئون البلاد وإحكام سيطرته على الأمور، مما سيعرِّض البلاد لحالة من الشلل والقلاقل. وإذا كان الفوز الكبير لحزب "الحرية والعدالة" كان متوقعًا، فإن البلاء الحسن الذي أبلاه حزب "النور" السلفي كان لافتًا ومفاجئًا، فقد نافس مرشحوه بقوة في جميع الدوائر، والمؤشرات ترشحهم للفوز ب 15- 20% من مقاعد البرلمان القادم، وهي فرصة لأن يكتسب كوادر الحزب خبرات العمل السياسي والنيابي التي لم يسبق لهم الحصول عليها. وإذا حدث تحالف إخواني سلفي في البرلمان، فإن ذلك من شأنه أن يجعل الإسلاميين في موقف قوة وطمأنينة داخل البرلمان. كانت مفاجأة الانتخابات أن حزب الوفد الليبرالي كان أداؤه سيئًا، ولم يحصل إلا على مقاعد قليلة لا تتناسب مع تاريخه، وهو ما يؤكد فشل الحزب في الالتحام مع الجماهير، واكتفاءه بالعمل الإعلامي فقط. وكانت المفاجأة الأخرى أن "الكتلة الديمقراطية" التي يقودها حزب "المصريين الأحرار" قد حققت نجاحًا ملحوظًا، وربما تحقق 15% من مقاعد البرلمان، ويرجع ذلك إلى الدور الذي قامت به الكنيسة في توجيه الأقباط للتصويت للكتلة، التي يتزعمها رجل الأعمال المسيحي نجيب ساويرس. أما الأحزاب اليسارية وبقية التيارات والأحزاب العلمانية فإنها تكاد تكون غير موجودة في الشارع إلا نادرًا، وهذا أمر منطقي، لكن له انعكاسات عصبية على موقف هؤلاء من الإسلاميين ومشروعهم. المصدر: الإسلام اليوم