استكمالا لما كتبته هنا قبل عدة أيام تحت عنوان "بمناسبة حارة اليهود"، وتحدثت فيه عن اليهود، وعن الآخر بشكل عام، وضرورة معرفته وفهم فكره وثقافته وتاريخه حتى يمكن إجادة التعامل معه، لكني لم اتطرق في المقال للمسلسل الذي يحمل اسم "حارة اليهود"، وهو سيكون مجال حديثنا اليوم، واتصور أنه يحقق نسب مشاهدة مرتفعة بسبب القضية التي يعالجها، فهناك شغف عام بأعمال السير الذاتية، أو بالأعمال التي تتناول قطاعات أو فئات ذات خصوصية في تاريخ البلدان مثل اليهود، أو التي تعالج أحداثا تاريخية شائكة وجدلية، علما بأن هذا المسلسل ليس هو العمل الفني الأول الذي يتطرق لليهود أو يتحدث عنهم لكن أهميته أنه يتناول بالتفصيل قصة درامية مخلوطة بالتاريخ من واقع الحارة التي كان يقطن فيها اليهود، وبالضرورة فهم لابد وأن يشكلوا محورا أساسيا في القصة الدرامية. اكتب متوقفا عند الأحداث في الحلقة الثانية عشرة حيث اتابع العمل على "يوتيوب" على مهل، فليس لدى القدرة على المتابعة على الشاشات حيث الفواصل الإعلانية التي تصيب بالملل وتفقد التتابع والتطور للأحداث علاوة على الانشغال في الحياة والعمل وهجر التلفزيون الذي حول رمضان من شهر للعبادة إلى شهر لعرض كل أنواع المفاسد والرذائل والإسفاف مما لم يكن يحدث من قبل. أولا: الميزة التي أرصدها لهذا المسلسل أنه يبتعد عن النمطية في تجسيد شخصية اليهودي، فقد اعتادت الأعمال الفنية السابقة التي يظهر فيها اليهودي كجزء أساسي أو طارئ أن يتم حبس الشخصية في تنميط معين لا يخرج عنه، فاليهودي شخص انعزالي قلق متآمر شكاك في المحيطين به، يتحدث بطريقة مضحكة " أخنف" علاوة على صفاته الشخصية الأخرى من البخل والطمع والجشع وكذلك طريقة اللبس والهندام، هذه المرة رأينا أناسا عاديين مثلنا لا يختلفون عن بقية سكان الحارة من المصريين مسلمين ومسيحيين في نمط الحياة والعيش باستثناء المظاهر الدينية يوم السبت، أناس يأكلون ويشربون ويضحكون ويحزنون ويمرضون ويحبون ويكرهون، لم نجدهم كائنات خرافية ولا شخصيات قادمة من عالم آخر فلاهم النوابغ ولا هم الأغبياء، وطبيعي أن يكون رسم الشخصيات وفق هذا الإطار لأن المسلسل يتحدث عن مصريين يهودا ولدوا ونشأوا وتربوا في مصر، ولديهم كل صفات المصريين، والاختلاف الطبيعي هو في الذهاب للمعبد وفي بعض الأسماء الدالة على طبيعة الدين كما المسيحيين في هذا الجانب. لا اتصور أن المؤلف مدحت العدل أراد تقديم صورة مغايرة للواقع في هذه النقطة بقدر ما هو اجتهد ليقدم صورة من الواقع الذي كان آنذاك، مثلا المطربة الراحلة ليلى مراد كانت يهودية قبل أن تشهر إسلامها، لكن بماذا تختلف عن أي مصرية مسلمة سواء كانت مطربة، أو شخصية عادية، وكذلك شقيقها منير مراد، وغيرهم من اليهود الذين حققوا شهرة في الفن أو الاقتصاد أو التجارة أو في مجالات النشاط المختلفة؟، لن نجد فروقا تذكر، الفارق بين ليلى مراد وهى يهودية، ثم وهى مسلمة هى الديانة، أما مادون ذلك فهي تحمل كل مواصفات أي سيدة مصرية. ثانيا: المؤلف يركز حتى ما شاهدناه على ثلاث عائلات يهودية، واحدة منها وأهمها وهى أحد محاور العمل عائلة هارون تاجر القماش في الحارة، وقد قسم العائلة إلى فريقين : الأول يضم الابنة وتدعى "ليلى" وهى متمسكة بمواطنتها المصرية، وعاشقة لبلدها وضد ما يرتكبه اليهود إخوانها في الدين في فلسطين، وهى حسب المسلسل مثال لليهودي المصري الوطني، والنقيض لها شقيقها موسى الذي هو يهودي متعصب وداعم تماما لنشوء دولة إسرائيل ومشجع للشباب اليهودي على الهجرة من مصر وناقم على ما يسميه الاضطهاد الذي يتعرض له اليهود في مصر، والمؤلف يجعل الأب هارون متعاطف مع الابنة، ويجعل الأم دليلة أقرب لابنها، أي أنه رسم الشخصيات بالتساوي في مسالة العلاقة تجاه مصر الوطن، وتقديري أنه أراد أن يقول إن كل اليهود لم يكونوا سواء، فمنهم من كان وطنيا مرتبطا بمصر، ومنهم من كان راغبا في الهجرة لأي بلد آخر أومتحمسا لإسرائيل ولم يكن يحمل لمصر مشاعر المواطنة الكاملة. عموما هذا التقسيم مريح، فلا هو يجعل اليهود كلهم خونة، ولا يجعلهم كلهم وطنيين، وبالتالي فإن المؤلف سيرضي المشاهد، ولا يجد نفسه متهما بأن مسلسله يحّسن من صورتهم بالمطلق، كما لا يُتهم بأنه يتعمد تشويه صورتهم بالمطلق أيضا. وقد حصن المؤلف نفسه بالعائلتين الأخريين ، واحدة منهما عائلة ثرية مرتبطة بالملك وتشجع وتدعم الهجرة، والعائلة الثالثة قلقة وخائفة وتتحدث عن الاضطهاد والاستهداف لليهود والرغبة في المغادرة ، ثم يعود المؤلف للعبة التوازن مجددا بإظهار شخصية يهودية كبيرة وثرية ضد تهجير اليهود من مصر ومع البقاء والارتباط بها. ثالثا: نسج المؤلف قصة حب جارفة بين بطل العمل "علي" وهو ضابط جيش مسلم، و"ليلى" وهى يهودية وبائعة في متجر شيكوريل ، والحب نشأ وترعرع في قلبيهما منذ الصغربحكم الجوار في المسكن والحارة، وهذا الجانب هو الشائك جدا في الحكاية والإثارة تزداد عندما يجعل المؤلف هذا الضابط يحارب في فلسطين عام 1948 ثم يقع أسيرا في أيدي اليهود ويتعرض لتعذيب وحشي منهم ومع ذلك يظل على حبه ل ليلى ويتذكرها وهو في السجن وصورتها لا تفارقه كلما نزل سياط الجلاد اليهودي على ظهره وكان خيالها ونيسه في أيام الأسر، وذكرياتهما معا هى التي كانت تعينه على الاحتمال، ولا حظوا أنها يهودية وأن من يعذبونه هم يهود من نفس دينها، لكن الضابط المسلم لا يربط بينها وبين ما يحدث له من هؤلاء وينحي قضية الملة حيث يفرق بين ممارسات المحتل اليهودي ضده وبين حبه لليلى وكونها يهودية لا يجعله يضعها معهم في نفس خانة الرفض والكراهية والدلالة هنا أن ضابط الجيش له شخصية سوية موزونة عاقلة حكيمة وأن دافع الانتقام والثأر ليس أعمى عنده بل هو قادر على الفرز والتمييز الدقيق حتى بين من ينتمون لنفس الدين ويرتكب بعضهم جرائم في حق فلسطين ومصر والعرب وفي حقه الشخصي وحق زملائه، تلك الصورة الجديدة التي يقدم بها المؤلف الضابط وكل ضابط باعتبارهم نماذج للرشد والمسؤولية والوطنية في تلك المرحلة الدقيقة التي ستشهد بعد سنوات قليلة الإطاحة بالملك وتوليهم هم حكم البلاد ربما أراد من طرف خفي أن يبرئ الضباط مما يتردد قديما من أنهم عبأوا الناس ضد اليهود بعد حرب 48، أو أنهم أجبروهم على مغادرة مصر عقب ثورة يوليو بعد وصمهم بالخيانة والغدر وعدم الوطنية. رابعا: دراما هذا العام تذخر بتوجه واضح ضد تيار الإسلام السياسي، ومنه الإخوان، ويظهر ذلك في أكثر من عمل، وهو أمر ليس جديدا، فقد برز مع تولي الإخوان السلطة في تحد لهم، ولكنه أخذ شكل الهجوم الحاد والصريح ووصمهم بكثير من الاتهامات بعد الإطاحة بهم، وهذا سلاح ذو حدين، فإذا لم يكن التناول موزونا ومنطقيا وموضوعيا وليس نفاقا وتسييسا وخدمة للتوجه العام فإنه قد ينقلب إلى دعاية فاسدة وقد يتسبب في الإعراض عنها، ومسلسل "حارة اليهود" يهاجم الإخوان خلال الفترة التي يتناولها وكان حسن البنا المرشد الأول للجماعة لازال على قيد الحياة، والمسلسل يظهر الإخواني وابنه في الحارة متعصبين يفتقدان اللياقة ومقابلهما يظهر المسلمين غير المؤدلجين ودودين متسامحين يقدرون حق الجيرة ويدافعون عن الجار اليهودي في مواجهة تهجم الإخوان عليه، ثم في عمليات العنف وتفجير مصالح وبيوت اليهود في الحارة نجد المسلسل ينسبها للإخوان صراحة وأنها تتم بناء على تلميحات من البنا نفسه بأن الحرب مع اليهود ليست في فلسطين فقط بل هى هنا أيضا أي في مصر، وكأنها إشارة منه لاستهدافهم، بل يظهر المسلسل اليهودي بمظهر المنفتح المتسامح الذي لا يتهم الناس من دون دليل بعكس الإخواني الذي يجعله متعصبا متشددا كارها لهم ولا يفقه شيئا في جوهر الإسلام. ومما يلفت الانتباه في معالجة المسلسل لقضية الإخوان هو تقليله من دورهم في فلسطين، فلا يعتبرهم قاموا بعمل جهادي أو قتالي كبير، بل يظهرهم كما لو كانوا يتهربون من الذهاب لفلسطين، ومعروف أن الإخوان بنوا جانبا مهما من تاريخهم في تلك الفترة على القتال في فلسطين، لكن المؤلف يشكك في هذا البناء ويسعى لنقضه، وهذا الأمر يحتاج لشهادة مؤرخين منصفين، فلو كان ما توصل إليه المؤلف مدحت العدل دقيقا فسيكون ذلك تعرية لقضية يعتبرها الإخوان من أبرز إنجازاتهم وتضحياتهم في فلسطين، وإن لم يكن ما تناوله العدل دقيقا فسيكون ذلك تزييفا للتاريخ وخلطا له بالموقف والرأي السياسي. .. مازال هناك ما يمكن تسجيله حول هذا العمل الدرامي التاريخي،وتصاعد الأحداث وتطورها قد يجعلنا نعود للكتابة عنه مجددا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.