من الأمور التي تسترعي انتباه أي متابع لحركة الاحتجاجات الغربية هو الربط شبه الدائم بين هذه الاحتجاجات المتصاعدة وبين الثورات العربية. أما الشرق، فقد ظل حبيس الهجمة الاستعمارية التي مزقت أواصر آخر إمبراطورياته (الإمبراطورية العثمانية)، واستغلت موارده، وأعاقت نهضته لعدة قرون، وتركته في النهاية يواجه ورماً زرع في خاصرته، كلما أراد الحركة إلى الأمام أعاده إلى الخلف. وأما الغرب، فإنه تجاهل ماضيه المخجل في محاولة منه للهروب من عقدة الذنب وتأنيب الضمير، رافعاً شعار "لا تنبش الماضي واعمل للمستقبل"، وسعت حكوماته دوماً إلى تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية عبر التعامل المباشر مع حكام المنطقة، و الذين قدموا أنفسهم كأناس متحضرين، كتبت عليهم أقدارهم أن يحكموا شعوباً من الغوغاء والرعاع، وأنهم هم وحدهم القادرون على ضمان الاستقرار في المنطقة، وتأمين مطالب دول الغرب فيها. ولعقود ممتدة، استمرت علاقة الشراكة بين أصحاب المصالح و السياسيين الغربيين من جهة، وبين طبقة الحكام العرب من جهة أخرى، وسادت فترات من التعاون والخلاف بل والمواجهه أحياناً. وخلال تلك الحقبات السياسية، ظلت رؤية الشعوب الغربية سلبية تجاه أقرانهم في الشرق، لا سيما أن سياسيي الغرب، كانوا دوماً يبررون تعاونهم مع حفنة من الدكتاتوريين العرب بكونهم أفضل المتاح. لكن فجر الثورات العربية أثر وبشدة على الصورة النمطية للشعوب العربية والتي سادت العقلية الغربية، فصور المتظاهرين المطالبين بالحرية والعدالة أظهر للعالم أجمع حقيقة الإنسان العربي، وأنه ليس ذلك الهمجي المتخلف الضائع بين جنبات الفقر، أو القابع في حفرة الملذات، وإنما هو إنسان كبقية البشر، له تطلعات حقيقية للعيش بكرامة وحرية، وأنه لم يكن، ولن يكون أبداً سعيداً بحكامه المتسلطين على رقابه وقوت أولاده، والمقامرين بمستقبل أوطانه. ولأول مرة منذ عشرات السنين، تمكن الغربيون، ومعهم العالم أيضاً، من متابعة ثورات حية مباشرة عبر شاشات التلفاز. هذه المشاهد أعادت تذكير المواطن الغربي بالقوة الكامنة داخل الإنسان الفرد، وقدرته على تحدي النظام الذي يتحكم في مناحي حياته، خاصة وأن ذات الإنسان الغربي قد سقط فريسة للنظام الاقتصادي والسياسي المحكم الصنع، والذي عمد إلى التحكم في كل مناحي حياته، والتأثير على قراراته وأفكاره، والحد من قدرته على الخروج عن التيار العام دون عواقب وخيمة تؤثر علي حياته ومستقبله. فأتت هذه الثورات لتذكره بأنه حتى أعتى الأنظمة وأشرسها، قد يسقط أمام صمود المتحدي له، متى توافرت لهذا الأخير العزيمة الكافية لأحداث التغيير مهما كلف الأمر. وقد يظن البعض أن الديمقراطية في بلاد الغرب تكفل لمواطنيها الحرية الكاملة للتعبير عن كل ما يجول بخاطرهم، وأن صناديق الاقتراع تكفل تحقيق السياسات والأهداف التي تخدم الصالح العام وحده. وربما كان هذا صحيحاً في بدايات التطبيق العملي للممارسات الديمقراطية، لكن صراعات الحرب الباردة وارهاصات المواجهة بين الشيوعية والرأسمالية، أوحت لبعض العباقرة بوجوب السيطرة على حركة الفكر السياسي داخل المجتمع الديمقراطي وتقنين حريته، وذلك من أجل الحد من تغلغل الفكر الآخر (مثل الشيوعية والإشتراكية الإجتماعية ومعاداة السامية) عبر استخدام الإعلام تارة، وسن القوانين تارة أخرى (المكارثية على سبيل المثال). وبسقوط الشيوعية وصعود الرأسمالية كنظام أوحد للعالم الجديد، جاءت نظريات العولمة الاقتصادية المدفوعة بمصالح النخبة الاقتصادية، لتؤكد الحاجة الماسة لإحكام السيطرة على مفاصل الإقتصاد والسياسة، ومن ثم تم ربط المواطن الغربي بعجلة الإستهلاك والديون، وتقييد الإعلام بإتجاهات الممولين، ثم إحكام السيطرة على الحياة السياسية عبر ربط النواب بجماعات المصالح، وذلك بإستخدام قوتي التمويل والإعلام، لينتهي الحال برجال السياسة إلى وضع أشبه ما يكونون فيه بالدمي الناطقة، حيث يناورون لتحقيق مصالح جماعات الضغط التي تكفل إعادة انتخابهم، ويصبح رؤساء أقوى الدول قادرين على التفوه بالحقيقة فقط داخل الغرف المغلقة، ولا يسمعها الآخرون تأتي من أفواههم إلا إذا ترك أحدهم ميكروفونات الصوت في وضع التشغيل، على سبيل الخطأ!.