مع تزايد الهزات السياسية الارتدادية التي بدأت تفعل ما تفعل في جدران وأسس النظام السوري التي تفتقد كل صمامات أمان مقاومة الزلازل، يحق للمواطن السوري الذي أصبح يعي تماما خطورة المأزق الذي يعيشه أن يشعر بالقلق البالغ لكونه في نهاية المطاف سيدفع الشطر الأكبر من الثمن إن لم يكن كله للتدافع المحموم لتلك القوى المتنوعة الساعية لحماية مكتسباتها المتضخّمة منذ أكثر من ثلاثة عقود على حساب الوطن والمواطن. ولكي نفهم حقا وجهة نظر المواطن السوري لا بد من معرفة المراحل التي مر بها خلال العقود الأربعة الماضية التي شكلت معالم العقلية الجمعية لهذا الشعب الصابر: الماضي والحاضر والمستقبل. في المرحلة الماضية ( منذ وصول البعث للسلطة) سلّم المواطن السوري زمام القيادة لنخبة ثورية وقومية غير منتخبة تحت شعارات تحرير الأرض السليبة واللحاق بركب الثورة الصناعية وتحرير الإنسان من إرث الماضي. لكن تلك النخبة فشلت فشلا ذريعاً في تحقيق أي من هذه الأهداف، وصاحب هذا الفشل إفلات غير معقول من كل مستلزمات الشفافية والمساءلة والمحاسبة، ساعدت بلا شك على تعبئة وشحن المواطنين لدرجة الثورة المسلحة؛ ولذا لا بد من اعتبار الثورة على النظام في السبعينات وبداية الثمانينات انعطافة طبيعية للفشل وغياب مبدأي المحاسبة والشفافية. لم تتمكن هذه الثورة من تحقيق أهدافها، لكنها غرست في تاريخ الشعب السوري جرحاً غائرا لم يندمل وأثراً نفسياً لم ينمح رغم مرور ربع قرن من الزمن. والغريب أن القيادة السورية آنذاك وبدلا من أن تنظر لتلك الثورة على أنها مؤشر واضح على ضرورة التغيير وتحسين الأداء العام وإفساح المجال أمام الإصلاح الحقيقي أو حتى النسبي، أمعنت في استبدادها وأصرت على التشبث بكل السياسات التي كانت باعثا للثورة. وبهذا دخل الشعب السوري نفقاً مظلماً من الاستبداد الأسطوري الذي كتب عنه ووصّفه بدقة أرسطو وسقراط على أنه يولد خنوعا عند المحكومين يجعلهم يقبلون بواقعهم، ويولد عند الحكام نهما للاستمرار بما هم عليه وبذلك تموت مع الزمن الرغبة البشرية بالانعتاق. في المرحلة الحاضرة شهد المواطن عدة انعطافات خطيرة وهامة: شيوع الحرية والديمقراطية والاحتلال الأمريكي والانسحاب السوري من لبنان. شهد المواطن حاضرا انعطافة الحرية وانتشار الديموقراطيات وتأصيل حقوق الإنسان وسقوط الكتلة الشرقية وما صاحبها من ثورة في المعلومات أطلعت المواطن السوري على ما يجري حوله، فأصبح يدرك مدى فشل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبدأ يتطلع ويُمنّي النفس بمستقبل واعد. كذلك شهد أيضا الاحتلال الأمريكي للعراق وما نتج عنه من انتشار أمريكي على الحدود المتاخمة لسورية، فاستشعر بالخطر وأحس بالوجع الوجداني لرؤيته فشل شعارات القومية العربية التي ربّاه النظام عليها والتي عجزت عن حماية العراق من نفسه والغزاة. ففي العراق يحس المواطن بالألم ويتخوف على بلاده من عدوى حريته، فيقع بين نارين. ثم جاء الانسحاب السوري من لبنان بعد حادثة اغتيال الحريري ورفاقه وما صاحبه من خسارة لبنان كرديف وحليف للنظام السوري، وخسارة المحيط العربي، ومواجهة المجتمع الدولي الذي شهد حالة فريدة من التنسيق والاتفاق بين أطرافه المتنافسة وخاصة فرنسا والولايات المتحدة ضد الموقف السوري. هذا الرصيد الهائل من الحوادث والمنعطفات أغنى ذاكرة المواطن السوري وأبلغه مرحلة من النضج أملت عليه نوعا من الممانعة الطبيعية لكل ما جرب وتبين فشله في الماضي، فكان طبيعيا رفض المعارضة والشعب لخيار التغير بقوة السلاح أو الثورة المسلحة الداخلية. كما أكسبه هذا الرصيد حساسية مفرطة تجاه الطريق الثاني المتمثل بالتعامل مع الاحتلال الأجنبي ودعوته لغزو أرضه، خاصة وأن الجميع يعيشون شهوداً أحياء على تاريخ سيكتب لأجيال قادمة عن احتلال قوة عظمى لأرض عربية، سماته الأساسية الاستقطاب الطائفي والحرب شبه الأهلية والتفكك المحتمل لوحدة التراب العراقي. [email protected]