عندما اندلعت حركة الاحتجاجات في اليمن لم يكن يشهد فقط مجرد استبدادًا سياسيًّا وفسادًا اقتصاديًّا، بل كان كُلٌّ من الدولة والمجتمع اليمنيين بإجمال على المحك. ويكفي التذكير بأنه في مؤشرٍ للدول الفاشلة لعام 2009 – نشر بتعاون بين معهد أبحاث صندوق السلام ومجلة (فورين بوليسي) - احتل اليمن المرتبة الثامنة عشرة مُتقدَّمًا على كوريا الشمالية بدرجة واحدة. فقد وصف البعض اليمن قبل الاحتجاجات بأنها دولة «تنصهر»، ومع اندلاع الاحتجاجات وتحولها إلى صراع بين موالين ومعارضين لحكم الرئيس على عبد صالح بدأت عملية «الانصهار» في التسارع. والواقع أن اليمن يبدو وكأنه قد دخل في حالة تدهور شبه دائم قد يستغرق الخروج منها وتجاوز آثارها سنوات وربما أكثر. المشكلة الأساسية لليمن إذًا ليست وليدة حركة الاحتجاجات. ففي الشمال، واجه نظام صالح قبل الاحتجاجات - التمرد الحوثي الذي بدأ يأخذ شكل الحرب الأهلية منذ 2004، و حركة انفصالية في الجنوب، بذورها قديمة قدم وحدة اليمن منذ عشرين عامًا، ووجودٍ لتنظيم القاعدة استجلب تدخلًا عسكريًّا جويًّا أميركيًّا مباشرًا. كل هذا فضلًا عن تراجع للاقتصاد وأزمة موارد، لا تستثني أحدًا من سكان اليمن البالغ عددهم 23 مليون نسمة يعاني نحو ثلثهم من جوع مزمن والوظائف شحيحة وانتشار الفساد وتضاؤل الموارد النفطية والمالية. جاءت الاحتجاجات – التي أطلقها الشباب في الأساس وخاصة طلاب الجامعات - رفضًا لهذه الأوضاع القائمة، إلا أنها ساهمت للمفارقة في تفاقمها، حيث حاولت كل الأطراف الأطراف السياسية الاستفادة من الاحتجاجات التي اندلعت في تحقيق مكاسبٍ خاصة، تأتي في الأساس على حساب بنية المجتمع والدولة في اليمن. فمع اتساع نطاق الاضطرابات حيث تخوض وحدات الجيش الموالية والمناوءة لصالح مواجهات في العاصمة صنعاء وغيرها أدَّى إلى إرخاء سيطرة الدولة - التي لم تكن قوية قط - على أغلب أجزاء اليمن مما تسبب في اطلاق يد المتمردين الحوثيين في الشمال والحركات الانفصالية في الجنوب وعناصر تنظيم القاعدة، بينما يعاني سكان البلاد من نقص في الغذاء والماء والوقود والوظائف. ولعل هذا ما يميز اليمن وهو أنه دولة ليست سلطتها ليس ثقيلة، هي دولة مركزي ضعيفة. والعامل الأساسي في بقاء نظام على عبد صالح هو قدرته على التكيف أكثر تعددية وقابلية للتكيف بدرجة قد تكون أكثر من نظام مبارك الراحل، كما أن استخدامه للأساليب القمعية في التخلص من معارضيه وخصومه كان أقل، في حين استطاع حكم صالح احتواء معارضيه بشبكة المحسوبية الواسعة التي أنتجتها إدارته. وعلى الرغم من أن مطلقي الاحتجاجات كانوا ممن تجاوزا الانتماءات القبلية والعشائرية، فإن الأكثر رجحانًا هو أن تحدد الانتماءات القبلية، والاختلافات بين الأقاليم، والانتشار الواسع للسلاح، كيفية تطور الأزمة في البلاد واحتمالات مخارجها. وبالفعل فقد عقد علي عبد صالح خلال الأسابيع التي أعقبت الإطاحة بمبارك، على وجه الخصوص، سلسلة من الاجتماعات مع مشايخ اتحاد قبائل حاشد و مع مشايخ بكيل؛ بغرض التصدي محاولات تقويض قاعدة الدعم القبلية التي يتمتع بها، وخلال النقاشات التي أجريت حينها خلف الأبواب المغلقة، ذُكِرَ أن الرئيس وعد بدعم مالي أكبر للمشايخ، في محاولة لحشد التضامن القبلي الزيدي ضد ما أطلق عليه حركة احتجاجات يقودها الشافعيون، ملمحًا إلى أن قد يكون «الرئيس الزيدي الأخير». ساهم صالح عمليًّا بسياساته تجاه الاحتجاجات التي تعم البلاد في تعريضها لمخاطر سياسية واجتماعية كبيرة؛ فالانقسام بين القوى الموالية والمعادية له تتعمق، واقتصاد البلاد في حالة مزريَّة، والظروف الأمنية والإنسانية في تدهور. وفي ظل مثل هذه الأوضاع التي تغذيها الأزمة المستمرة، فإن وحدة البلاد وتماسكها – وخصوصًا وضع الجنوب – تمسي في خطر، خاصة بعد أن بدأت المظالم القديمة تتخذ أشكالًا أكثر حدة واكتسبت التطلعات الانفصالية زخمًا أكبر لدى البعض. كثيرًا ما تحدَّت القبائل باليمن سلطة الحكومة، وسعت في كثير من الأحيان إلى الحصول على الأموال أو الخدمات مقابل القبول بسلطة الحكومة المركزية، لكن السيطرة على أراض من قبل جماعات مختلفة في الآونة الأخيرة، ربما تكون مؤشرًا على اتجاه أكثر تدهورًا لأوضاع البلاد في ظل انفكاء السلطة المركزية الضعيفة أصلا. عندما أطلق الشباب اليمنيون الانتفاضة أطلقوها في بيئة معقدة وغير منسجمة، وفي مجتمع مكوناته عمليًّا هي القبائل والجماعات المسلحة والحركات الانفصالية، كل هذا في ظل حالة انهيار تدريجي لأجهزة ومؤسسات الدولة. ومن ثم فإن وحدة اليمن هي التحدي الأول للانتفاضة والاستفادة منها بجعلها نقطة بدء لإصلاحات واسعة وعميقة في الدولة والحيلولة دونها والانهيار.