لا زلنا مع أسئلة الهوية " من نحن وماذا نريد " ، والاجابة على سؤال اليوم " ما مهتنا ؟ " سترسم انطلاقة لفهم مختلف لاشكالية اقامة الدين واقامة السلطة ، ومن شأنها وضع منهج جديد يضع كل مفهوم وكل شعار من الشعارات الكثيرة التى ترفعها كثير من فصائل الحركة الاسلامية فى سياقه وحجمه واطاره الصحيح . قضية اقامة الدين تكاملية ، فعل وتفاعل ، بمعنى أنها تعتمد على طرفين ؛ طرف يدعو ويشرح ويفصل وينذر ويبشر ويحاور ويبرهن ، وطرف آخر مدعو يستجيب ويذعن عن قناعة تامة وارادة حرة . اقامة الدين أمر مختلف تماماً عن اقامة السلطة السياسية ؛ فالسلطة قوانين والزام وفرعيات متعلقة بالحقوق وحفظ الأمن ، وشأن سياسى دنيوى متغير بحسب الظروف والمستجدات ، أما اقامة الدين فشأن دينى مستمر مطلوب فى كل وقت أخروى شامل ، وقد تكون اقامة السلطة شئ وجزء منه ونتيجة من نتائجه فى بعض المراحل ، لكن لا يحدث العكس على الاطلاق ، فاقامة السلطة ليست مقدمة لاقامة الدين ، وهذه الأخيرة ليست من نتائج اقامة السلطة ؛ فالدعوة سبقت دولة النبوة فى المدينة ، والسلطات والممالك الواسعة التى حازها المسلمون طوال تاريخهم لم تضمن مستويات قياسية من اقامة الدين فى مجتمعاتهم ؛ فالعلاقة اذاً هنا وفق هذه المعادلة : " مجتمع صالح = سلطة جيدة " ، وليس العكس ، وقد وضعها النبى صلى الله عليه وسلم فى سياق قاعدة سننية " كما تكونوا يول عليكم " . نعود الى أصول القضية ؛ لأنها متعلقة بأصول الدين الواحد ومبادئه وقيمه العامة وأخلاقه المنزلة على جميع الرسل وفق آية سورة الشورى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " . ما هو الدين الذى نزلت أصوله العامة ومبادئه الكلية على أنبياء الله جميعا ، والمطالبون نحن باقامته ؟ هذا ما وضحه القرآن تفصيلياً ؛ فهناك أمر أولى بافراد الله بالعبودية " وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا اله الا أنا فاعبدون " وأيضاً " اذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا الا الله " ، وكذلك الانذار من مغبة عدم توحيد الله وضرورة خشيته والعمل فى سبيل مرضاته " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا اله الا أنا فاتقون " ، وكذلك ايضاح حقيقة الدين للناس وأنها تكامل سماوى أرضى لبث قيم السعادة والجمال والرفاهية ، ورفاهية الانسان برفعه الى مستوى الطيب والانسانى الراقى عملاً وأداءاً وممارسة حياتية ، ليصبح كل ما يقدم عليه الانسان فى حياته طيباً وصالحاً " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً انى بما تعملون عليم " ، واقامة الدين تتطلب اقامة العدل وعمران الأرض وتنمية الموارد فى جميع المجالات لنفع الناس والبشرية " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس " ، وهذا كله يتطلب دأباً وجهداً وصبراً عظيماً وليس استعجالاً وهرولة وهرجلة " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " ، واقامة الدين تتطلب القيام بأمر الدعوة بالبشارة والنذارة " رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " . هذا هو الدين المطالبون نحن باقامته وتلك هى تعاليمه وقيمه الأساسية ، واقامته كما هو واضح من الآيات وطبيعة ما أمرت به تتطلب تفاعل واستجابة وقناعة بارادة حرة مختارة . هناك قوانين لكنها متعلقة بشأن خاص وأحوال معينة تتطلب تدخل الدولة والسلطة ، وهو قليل جداً وفى حالات معدودة ؛ فالجانب القانونى الذى يحتاج لتدخل الدولة قليل جداً ينحصر فيما يتعلق بحقوق العباد اذا حدث اعتداء عليها ، فكانت هناك عقوبات دنيوية لتجاوزات لا تزيد على أصابع اليد ؛ وهذا يتناقض مع طرح من يتصورون أن الدين عبارة عن محكمة جنائية أو مؤسسة قانونية ؛ فليست كل معصية فى الاسلام جريمة جنائية تستلزم تدخل السلطة والدولة ، انما تتحول المعصية أو الخطأ البشرى الى جريمة جنائية فقط اذا انتهكت حقوق الآخرين . الفارق كبير جداً بين اقامة الدين واقامة السلطة تحت عنوان الدين بزعم اقامة القوانين والزام من هم تحت سلطتى بتعاليم الدين . أن أقيم الدين فى نفسى ساعتها أكون قد وفيت وأكملت ما أمر الله به من تعاليم ومبادئ أنزلها على رسله الكرام ، وأن أدعو الناس بداية من أسرتى الى ما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وأنى قد وصلت لمستوى احترام حريات الآخرين وحقوقهم وأن أقبل بصدر رحب انتقادهم الايجابى ونصائحهم وأن أكون راقياً فى الصداقة والخصومة ، واذا أخطأت وتجاوزت فى حق أحد على سبيل الخطأ فأنا مستعد ساعتئذ لأن أقدم ظهرى ليجلد أو يدى لتوضع بها الكلبشات . قارن هذا النموذج بمجموعة أو مجموعات تفهم الدين فقط على أنه محكمة أو مؤسسة وشركة لانزال العقاب بالآخرين ، متلهفين فقط لجلد ظهور الآخرين وقطع رؤوسهم ، وهم ليسوا على استعداد حتى لتقبل النقد اللفظى من الآخرين . اقامة الدين هنا " وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين " ، " فهل على الرسل الا البلاغ المبين " بما يتطلبه من ارادة حرة واختيار وقناعة تامة ، أما اقامة القوانين فشأن آخر متعلق بحقوق الناس ومنع الاعتداء عليها واستعادتها ، بقوة القانون وسلطة الدولة فى حدود حوادث بعينها وزمان بعينه وقعت فيه تلك الحوادث. الخلط بين هذا وذاك من أسوأ الكوارث المنهجية ، فهو يمنح السلطة المستبدة التى ترفع شعارات الدين ، فرص تعويض افتقادها للشرعية السياسية من خلال اختيار جماهيرى حر وفق تعاليم ومبادئ الشورى الاسلامية ، بتقديم نفسها كمدافع عن الاسلام والملة والأخلاق والتدخل فى تفاصيل حياة الناس بأساليبها القمعية .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.