تداعيات أزمة الرسوم الكاريكاتورية وتطوراتها ألقت بظلالها الحزينة والمؤلمة على الصحافة الألمانية ,فبين ناشر لبعض تلكم الصور الوضيعة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبيل يومين كما هو شأن "دي فيلت" إحدى كبريات الصحف العريقة في الجمهورية الفيدرالية, وبين داع إلى إعادة النظر في حدود حرية التعبير والصحافة وبعض المفاهيم العلمانية، كما هو شأن الصحفي الألماني بيتر فيليب الذي كتب قائلا: "لكن في الوقت عينه، لا بدَّ من إعادة التفكير ومراجعة مسألة الفصل بين الدين والدولة في المجتمعات العلمانية". وكما جرى النقاش بُعيد مقتل المخرج الهولندي "تيو فان غوغ"، يتعين على الأقل إعادة التفكير والبحث فيما إذا كانت بعض قوانين حرية الصحافة والرأي يجب أن تبقى على حالها بلا روابط، أو إذا ما كان عليها أن تُعدَّل لتصبح مثل كافة الحريات الأخرى، التي تنتهي حدودها حيثما تبدأ حرية الآخرين. الحدود في هذه الحالة هي حرية الممارسة الدينية وحق الأقليات بالحماية وعدم الملاحقة أو حتى التجريح وحسب. للأقلية الدينية الحق بالحماية من هذه الاعتداءات، والمسلمون أقليةٌ في الديمقراطيات الغربية، ومن واجب الأكثرية أن توفر وتضمن هذه الحماية. وإلا فلن يبقى من أُسس الديمقراطية الكثير"، غير أن بعضها الآخر نحى وجهة ليبرالية ليبدي مخاوفه من سطوة "رجال الدين" والديانات على واقع حرية الإعلام، وهو ما أكدته صحيفة "التغس تسايتونغ" اليسارية حيث كتبت في أحد تعليقاتها ما يلي: "هذا مطلب لا يمكن تحقيقه، إذا كنا لا نريد أن يحدِّد لنا القساوسة أو الأئمة أو الحاخامات ما نقرأ أو نسمع أو نشاهد، هذه السلطات الدينية أثبتت نفسها ولأمدٍ طويل باعتبارها سلطات مضطهدةً لحرية الرأي". أما عن الجانب الإسلامي والجاليات المسلمة، فإن مواضيع خطب الجمعة لم تخل هذا اليوم في أول جمعة من السنة الهجرية الجديدة من التطرق إلى القضية من منطلق الغيرة على النبي محمد صلي الله عليه وسلم وما حمله إلى الناس كافة من رسالة إصلاحية عالمية وخيرية, إذ لوحظ أن بعض الأئمة امتشق بلسان عربي مبين شأن بعض من أساء إليه عليه أفضل الصلاة والتسليم ليبين أن هذا الأمر من أمارات كماله الخلقي والخلقي ومن دلائل اكتمال الرسالة التي حملها، بل دلل من خلال بعض النصوص المأثورة وبعض شواهد الصحابة الكرام على أن بعضهم كان يؤكد على أنه كلما اتجه الأمر إلى القدح والتحقير والاستنقاص من قدر النبي المصطفي وخاتم النبيين، إلا وكانت القرائن مبشرة بقرب انتصار هذا الدين العظيم . إن هذه الصور وإعادة نشرها على نطاق واسع في أكثر من بلد غربي يكاد يكون قد أحدث شرخا عميقا في مستوى العلاقات القائمة بين دول الشرق المسلم ودول الغرب متعددة الأعراق والديانات, ولعل من أقدم على هذا العمل سواء بشكله القصدي أو العفوي لم يدرك بأن مثل هذا العمل يمكن أن يتطور إلى مكسب في يد اليمين المتطرف في بلاد الغرب أو إلى حجة ليس من السهل دحضها في يد بعض الجماعات الإسلامية التي تؤمن بالعنف المسلح في بلاد العرب والمسلمين. وللأسف الشديد، فإن جماعات اليمين الأوروبي والغربي تبحث عن كل ما هو غير مسئول لتحاصر بذلك عبر ردود الفعل غير المسئولة لبعض المسلمين عبر حرق بعض أعلام دول أعضاء بالاتحاد الأوربي أو عبر الاعتداء على مكاتبها الدبلوماسية, لتحاصر بذلك وجود الإسلام على أرضها أو لتشدد الخناق على الأقليات المسلمة أو تنحو بشكل أو بآخر نحو اضطهادها. أما عن الجماعات السرية في عالمنا العربي أو الإسلامي، والتي طالما طعنت في أطروحة الوسطيين المعتدلين من الذين قرروا خوض الغمار الانتخابي والمشاركة الهادئة والسلمية والايجابية في الحياة العامة, فإنها اليوم تجد نفسها أمام هدية غير مسبوقة من قبل الغلاة الجدد إذا صح التعبير من أجل تحفيز الأنصار من حولها وتضخيم الدعايات, بأن ما يواجهه المسلمون هو عين الحرب الصليبية الجديدة, ومن هنا الانقضاض على ما حققه أنصار ودعاة التواصل بين الحضارات . ولعل ما تفعله بعض الجهات غير المسئولة في بعض وسائل الإعلام الغربية, من شأنه أيضا أن يقرب المسافات بين الشعوب والحكام, بعد أن بات من السهل إقناع كل ذوي العقول حتى من داخل الجهات الرسمية والأحزاب الحاكمة بأن الخطر يتهدد الجميع، وأن عقائد الإسلام باتت عرضة للاستهزاء والسخرية, وهو ما لم يضعه المشرفون على هذه الصحف قيد الحسبان. إننا اليوم نجد أنفسنا أمام موقف شعبي ورسمي عربي وإسلامي متناغم، فما أقدمت عليه الحكومة التونسية والمغربية من إيقاف دخول جريدة "لوسوار" الفرنسية لأراضيها الوطنية, وما أقدم عليه قادة "الايسيسكو" في نص بيانهم الختامي من توصيات في قمة تونس وكذلكم الموقف السعودي والكويتي المتقدم، يضاف إلى ذلك الموقف الليبي سواء عبر غلق السفارات في العاصمة كوبنهاغن أو من خلال استدعاء السفراء, كل ذلك يدل على أن نشر الصور على الصحيفة الدانماركية قبيل بضعة أشهر تحول إلى كرة ثلجية ضخمة، إما أن تؤدي إلى نتائج ايجابية ترسي حوارا عادلا أو حقيقيا بين الشعوب والحضارات، أو أن تتحول لا قدر الله إلى نسف كلي لندوات ومؤتمرات وخطط وإستراتيجيات استنفذت مئات الملايين من الدولارات من أجل ترسيخ التواصل والتعارف بين الحضارات، فكيف سيكون موقف الغرب أمام هذا التدهور الخطير والدراماتيكي الذي لن يصب إلا في مصلحة دعاة وسماسرة الحرب المصدر العصر