وقفنا فى مقالنا السابق عن المعونة الأمريكية المقدمة لمصر عند المعونة الاقتصادية، وقلنا إنها كانت تقدر بنحو 250 مليون دولار أمريكى وذلك قبل أن يوافق الكونجرس- بوصفه المجلس التشريعى –على زيادتها لتطال مبلغ 815 مليون دولار وذلك وفقا لتطور علاقات ما يسمى بالشراكة ووفقا –أيضا – إلى تبادلية المنافع بين جانبيها المصرى والأمريكى سواء بسواء. وتواعدنا أن نقتلها بحثًا هذا المقال وسوف نوفى بقدر ما يتاح لنا وينار أمامنا فى هذه المسألة الملبدة الغيوم أو الحالكة الظلمة وسط بيئة من الأضواء المبهرة. ووفقا لهيئة المعونة الأمريكية، ونحن هنا ننقل – بتصرف يجلى المعنى ويحصره - من تقريرها التى قدمته للكونجرس الأمريكى بوصفه الجهة المناط لها المراقبة والمتابعة لأعمال تلك الهيئة وذلك عن نشاطها خلال ربع القرن المنتهى عام 2000 والذى توضح منه الآتى :- "ظلت مصر تتلقى مبلغ 815 مليون دولار أمريكى منذ عام 1979 وحتى عام 1999 بمتجمع قدره 24,3مليار دولار. وقد اتجهت المعونة فى عقد السبعينيات لتطهير قناة السويس وإعادتها للملاحة البحرية، والمساعدة فى توفير مقومات البنية الأساسية فى مجالات الطاقة والمياه والاتصالات وبناء صوامع الغلال؛ كما اتجهت المعونة فى عقد الثمانينيات لتحسين مستوى معيشة المصريين وحياتهم وخاصة فى المناطق الريفية، كما خصصت للزراعة والصحة والتعليم وإلى دعم الجهود المصرية للإصلاح الاقتصادى وأنشطة الخصخصة ودخول اقتصاد السوق عن طريق إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص فى قياده الاقتصاد الوطنى، وفى عقد التسعينيات أعطت التفاتًا أكبر لجهود الحكومة للإسراع بالتنمية الاقتصادية وبيع وتصفية القطاع العام والعمل على زيادة الصادرات ودعم المنظمات غير الحكومية لتلعب دورًا فى النشاط التنموى" (انتهى الجزء الذى اجتزأته من تقرير هيئة المعونة الأمريكية المقدم للكونجرس) . وجدير بالذكر أنه بداء من عام 1999 فإن مبلغ المعونة بناء على اتفاق أملته الولاياتالمتحدة على مصر يتم تخفيضه بنسبة 5% سنويًا أى ينحو 40 مليون دولار سنويًا، أى يتم إفناء المعونة الاقتصادية تماما بعد20 سنة أى عام 2019 إذا سارت الأمور بتلك الكيفية المتفق عليها. ونأتى –الآن- إلى تساؤل يجدر طرحه وهو هل المعونة الاقتصادية كلها منافع ولا تخلو من أضرار؟ أم العكس هو عين الحقيقة ومناطها؟ وللإجابة عن هذا التساؤل أو تلك، ينبغى عرض وجهتى النظر المطروحتان فى هذا الشأن على النحو التالى : وجة النظر الأولى :المعونة كلها فوائد يقطع فريق من الخبراء معظمهم من الجانب الأمريكى بتحقيق المعونة خلال سنواتها الخمس والعشرين الأولى لها للعديد من المنافع التى لا يمكن إغفالها فهى واضحة من خلال القطاعات الاقتصادية التى ذهبت إليها، وأورد الزاعمون بفوائدها ببيان بالحصر الحسابى للمعونة وفقا للتوزيع القطاعى على قطاعات الاقتصاد المصرى وذلك بالاستعانة بما جاء ذكره بتقرير هيئة المعونة المار ذكره عاليه على النحو التالى:-- أ ) 6,7مليار دولار تم إنفاقه من أموال المعونة على بند الواردات السلعية التى تدعم تمكين القطاع العام من استيراد كل من المعدات والمستلزمات السلعية اللازمة لاستمراريته بالإضافة لتمويل واردات مشروعات القطاع الخاص الإنتاجى. (بنسبة 27,6% من إجمالى المعونة). ب )5,9 مليار دولار تم إنفاقها من أموال المعونة على بند تمويل مشروعات البنية الأساسية وتشمل مشروعات مياه الرى والصرف الصحى والصحة العامة والاتصالات والنقل والطاقة الكهربية (بنسبة 24,3% من إجمالى المعونة). ج )4,5 مليار دولار تم إنفاقه من أموال المعونة على بنود تمويل مشروعات الخدمات الأساسية والصحية وتنظيم الأسرة وشئون البيئة والتعليم.(بنسبة 18,5% من إجمالى المعونة). د )3,9 مليار دولار للمعونات الغذائية.(بنسبة 16% من إجمالى المعونة). ه )3,3 مليار دولار تحويلات نقدية ومعونات فنية فى مجال إصلاح السياسات الاقتصادية والتكيف الهيكلى لاقتصاد الدولة وتشمل أتعاب أعمال التدريب وتقديم الاستشارات.(بنسبة 13,5% من إجمالى المعونة). وجة النظر الثانية: المعونة يسكنها الشيطان ويتبنى وجهه النظر هذه، العديد من المفكرين وكتاب مقالات الرأى فى كثير من الصحف المصرية على مدار العديد من السنوات وبالذات عقب ثورة يناير 2011 وما بعدها، ثم زادت حدتها بعد إقصاء الدكتور مرسى عن سدة الحكم فى مصر؛ ويمكن تلخيص هذا النظر فى النقاط التالية: أ) ينظر الكثير إليها على أنها مُقيِدة لمصر عن أداء دورها القومى والعربى على حد سواء حيث سيجعلها كالذيل التابع للولايات المتحدة ومن ورائها دولة إسرائيل ومن ثم ستتخلى مصر عن دورها التقليدى المؤيد للقضية الفلسطينية. ب ) كما يروا أن 70% من تلك المعونة (وهو تقدير مرسل لا يرتكن على سند أو دليل يمكن الوثوق فيه) يعود أدراجه مرة أخرى إلى الولاياتالمتحدة فى صورة أرباح للشركات الأمريكية العاملة بمصر وأجور المستشارين وسائر العاملين الأمريكيين الذين يلزم قانون المعونة الحكومة المصرية على أن تتعامل معهم فى مشروعاتها الممولة من مخصصات المعونة. ج ) المعونة مشروطة ومقيدة لمصر بمعنى أن مصر لا يمكن أن يكون لها مطلق الحرية فى إنفاقها بل فإنه يلزم أخذ موافقة هيئة المعونة الأمريكية على أى إنفاق حكومى قبل تنفيذه وذلك لسبب مهم وهو أن المبلغ لن يكون فى حوزة الحكومة المصرية من قبل هيئة المعونة إلا بعد موافقتها على بند الإنفاق التى تقرره تلك الهيئة الأمريكية وفقا لما تقرره وتراه. د ) إن تلك المعونة لم تلعب دورًا مؤثرًا فى تحقيق التنمية الاقتصادية، بل وكان هناك حرص من الهيئة الأمريكية أن لا تذهب إلى التصنيع أو القطاع العام الصناعى. هذا وقد أدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى فرضتها هذه المساعدات على الجانب المصرى إلى تراجع التنمية الاقتصادية وزيادة العجز فى ميزان المدفوعات ولاسيما الميزان التجارى كنتيجة مباشره لفشل سياسات التصدير والارتكان إلى أنشطة الاستيراد فى إيفاء الاحتياجات والرهان الخاسر على جلب استثمارات أجنبية عصية مما قاد-فى النهاية- إلى تراجع قيمة العملة الوطنية (الجنيه)أمام كل العملات الحرة بما فيها الدولار الأمريكى وكل تلك العوامل الفاعلة أدت إلى زيادة نسب الفقر وارتفاع أعداد الفقراء والمتبطلين من الأيدى العاملة ضمن قوة العمل ومن ثم انخفاض مستوى المعيشة بوجه عام لكل الطبقات وأخصها الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة. ه ) على الرغم من أن الهيئة الأمريكية كانت تخصص لمنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجال حقوق الإنسان الكثير من المخصصات المالية فى صور مختلفة منها مخصصات التدريب خارج البلاد وداخلها ومخصصات أخرى تتصل بأنشطتها فى الداخل، إلا أن الهامش الديمقراطى كان متراجعًا للغاية عن ما كان متاحا فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات . نتيجة تحالف الحكومة الأمريكية من النظام الحاكم وتدعيمه لفرض سلطته الدكتاتورية. و ) إننا إذا حسبنا المساعدات النقدية السائلة فى صورة نقدية مباشرة خلال ربع القرن تحت الدراسة سنجد أنها لن تزيد بحال على مليار و 815 مليون دولار بينما باقى مبلغ المعونة وقدره نحو 21 مليار و185 مليون دولار لم يغادر أمريكا قط بل خصصت للاستيراد من الولاياتالمتحدة مع الأخذ فى الاعتبار ارتفاع أسعار البضائع الأمريكية عن مثيلاتها لدى باقى دول العالم وكذلك ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين والنقل مقارنتا بأوروبا واليابان كما خصص جانب مهم من تلك المعونة لاستيراد فائض الحبوب الأمريكية وما صاحب ذلك من محاربة منتجى المحاصيل الأمريكيين لأى دعوى وطنية لزراعة تلك المحاصيل الاستراتيجية سبيلا لتحقيق الاكتفاء الذاتى منها؛ كما تستهلك عمليات الإفساد والرشاوى المقدمة لمسئولين مصريين نظير تسهيل إمرار وإقرار تلك الأعمال المشينة جزءا لا يستهان به من مبلغ المعونة. والرأى عندنا نحن نرى أن كلا الفريقان – وبكل تأكيد – يصيبان شطرًا مهمًا من كبد الحقيقة فإذا كان الفريق الأول يصور المعونة وقت مولدها مرورًا إلى بواكير صباها وحتى ريعان شبابها؛ فإن الفريق الثانى يصمها عند محطاتها المتأخرة ومقاربتها خرف الشيخوخة. ومن الجهة المقابلة فإنه فى مجال العلاقات الدولية بين الدول ومن منطق سعى أى طرف لتحقيق مصالحه ومآربه من خلال أى شراكة أو اتفاقية أو ما شابهما مع طرف آخر فلا يجب أن نلقى باللائمة فى سوء استغلال المعونة على أمريكا ونتجاهل أننا – أيضا- متهمون بتحمل شطرًا كبيرًا من الإثم بطريق التفريط والإهمال والتواكل فى إدارة ثروتنا القومية والوطنية لما فيه مصلحة البلاد والعباد وتلك-على كل الأحوال- قضيه أخرى.