ثمة مقارنة سريعة يمكن لأي إنسان عادي أن يقوم بها ليعرف مقدار التحول والمتحولين في مصر الثورة عن مصر المخلوع، وثمة مقارنة ظريفة أخرى يستطيع أن يقوم بها نفس الإنسان عن التحول والمتحولين في مصر وتونس في الأشهر السبعة الماضية؛ لنعرف آثار هذا التحول العظيم في مصر المهروسة!! لما جاء الدكتور يحيى الجمل بسياسة عرجاء، وإشراكه للفاسدين والمنافقين والمطبلين والمهرجين في حواره الوطني عرفنا خيبة الأمل التي ركبت الجمل؛ ولما ذهب الرجل الذي رفضت استقالاته – مرارا على ما صرّح – جاء إلينا آخر لم نكن نعرفه ولا يعرفه جل المصريين لأنه جاء من حزب هو أصلاً اسم بلا رسم، ولفظ دون معنى، فكم مصري يعرف حزب الوفد، ومن عرفه فمنذا الذي يشرح لنا مآثره المنيفة أيام الملك أو أيام الثورة هذه أو الفترة التي خمد فيها طائعا أم مجبرًا بينهما.. لازالت تتردد كلمة المشير في أذني مذ حلف علي السلمي أمامه اليمين الدستوري: أمامك جهد كبير، وننتظر منك الكثير. فلقد عين الرجل نائبًا لرئيس الوزراء لشئون التحول الديمقراطي، غير أنه أصرّ على حذو خلفه يحيى الجمل فظلت المبادئ فوق الدستورية آيات مقدسة تُتلى في مكتب السيد المسئول عن التحول السياسي في البلد، وبدأ الرجل في تطبيق وتنفيذ وتمرير هذه الآيات المقدسة لليبراليين والعلمانيين تحت سمع وبصر ورضا المجلس العسكري، فتارة يتحدث عن مبادئ فوق دستورية، وتارة دستورية، وتارة من خلال بيان الأحزاب مع العسكر الذي اعتبروه وثيقة شرف غير ملزمة، ثم حينما فشلت كل محاولاته – وهو المنفّذ الأمين – أعلنها اليوم صريحة وكشف عن ماهية المبادئ فوق الدستورية التي طالما حذر الإسلاميون من فخاخها العظيمة التي تجعل عملية التحول إلى الديمقراطية ترجع إلى الخلف.. فانتبه من فضلك الثورة ترجع إلى الخلف!! من التحول إلى الديمقراطية إلى التحول عن الديمقراطية كان شعار سبعة أشهر أضنت الشعب والثوار وأصحاب الأقلام الطاهرة والآراء النظيفة والحناجر القوية في الحق والاعتقالات والمحاكم العسكرية والتلكؤ في العزل السياسي ونسيان قانون الطوارئ وضرب الاستفتاء الدستوري الشعبي بالحائط وتجاهل مطالب الثائرين والإصرار على إرجاع حالة اليأس والإحباط ولعن الثورة وفين أيامك يا مبارك، وإحنا آسفين يا ريس ... كل هذا أُنفق عليه المليارات وحبك تمثيله عشرات بل آلاف من الممثلين والمهرجين على مختلف مستويات الشعب المطحون فضلاً عن الإعلام الذي يمثل دور الطاهر العفيف لكنه فقد طهارته وعذريته بأموال موجّهة وسياسة قميئة، لتغلق قناة الجزيرة مباشر مصر في عملية بوليسية ذكرتنا بالنظام السابق وتتم عملية التضييق والرقيب الصحفي مذ جاء الوفدي الآخر وزير الإعلام أسامة هيكل ليتضح لنا حقيقة بئر حزب الوفد الآسن!! كانت الصراحة هي الحل الأخير أمام السلمي فقد فشل الرجل وأعياه المرض ليذهب إلى الخارج معالجًا على حساب المصريين الشرفاء الذين أوصلوه وأوصلوا حزبه إلى العظمة والأبهة التي باتوا فيها بعدما أشركهم مبارك في دور المعارضة المستأنسة ردحا عظيما من الزمن الذي استطاعوا أن يفسدوه، ولو كان هناك وظيفة للمدعي العام السياسي لكان حزب الوفد من جملة الأحزاب التي تستحق أن يقدم فيها بلاغ عريض لإفساده الحياة السياسية وقبوله مسرحية المعارضة العفيفة أيام المخلوع مبارك. جاء السلمي ليقول لنا في وثيقته الجديدة القديمة أنه سيكون للجيش حصانته الخاصة، ولا دخل لأي سلطة كانت، وطبعا مجلس الشعب على رأسها في مراقبة أداء وميزانية هذه القوات التي هي جهة خدمية مملوكة للشعب، ومجلس الشعب هو الرقيب والمشرّع الوحيد في هذا البلد الجديد الذي جعله السلمي متحولاً عن الديمقراطية بجعل الجيش سلطة مستقلة لا دخل لأحد في شئونه الخاصة، في إعادة لإنتاج النموذج التركي الذي تتخلص منه ومن عواره وسوءاته الدولة التركية الحالية؛ لنأخذ نحن المخلفات السياسية للآخرين لندفنها في بلدنا الثائر! إن البند رقم 9 من وثيقة السلمي يجعل الشعب عدوًا للجيش، أو يرسّخ سياسة علو الجيش على الشعب أو هما معا، وهما أمران أدناهما مر علقم، فكيف يتم تفسيخ العلاقة، وانفصام العروة الوثقى بين جيش مصر وشعبها بهذا البند العقيم، وكيف لا يرفض المجلس العسكري أو يبدي نفيه أو تحفظه أو تجديد كلامه عن وقوفه مع ثورة الشعب التي قطعا لا تقبل هذه الترهات بل الفتنة التي ستحدث بين الشعب والجيش، فكيف بشعب ثائر أسقط رأس الطغيان وبعض أعاظم المجرمين معه أن يقبل ديكتاتورية جديدة أو ترسّخ لها تحت أي مسمى أو قيادة كانت؟!! بل إن أعضاء مجلسي الشعب والشورى المنتخبين قد اقتصرت مهمتهم على اختيار عشرين عضوا فقط من بين المئة عضو الذين يشكلون لجنة وضع الدستور، وأن الثمانين عضوا الآخرين سيختارون من خلال هيئات ومؤسسات لا زالت معظمها تحت سيطرة الحزب الوطني المنحل.!! [مادة 1] وأنه في حالة نجاح لجنة وضع الدستور بتشكيلها المتناقض، وهو أمر مستحيل، في مهمتها ورأى المجلس العسكري تعارضَ ما وضعتْهُ مع طموحاته، فله أن يعترض على نصوص المشروع أمام المحكمة الدستورية العليا، التي يقتصر اختصاصها فقط على مراقبة دستورية القوانين وليست دستورية الدساتير!!. [مادة 2] وأنه في حالة إخفاق لجنة وضع الدستور في مهمتها، وهو أمر مؤكد، فإن المجلس العسكري يتولاها بلا منازع، حيث نِيطَ به وحده دون غيره مهمة وضع الدستور!! [مادة 3] بعد كل هذا الحديث عن وثيقة السلمي ومن قبله عن يحيى الجمل لا نريد أن نضيع الجهد والوقت ونزيد الفتنة والانشغال بهذه الحروب المصطنعة، التي قد يراد تطويلها زمنيا ليتم الفوز بأي بند منها في نهاية المطاف، ولذلك وجب قطع الطريق عن هذه المتاهة الجديدة بإلزام القائمين على البلاد بوضع خطة سريعة وواضحة للانتقال الديمقراطي الحقيقي، وأن ذلك – كما قال شباب التيار الإسلامي – يبدأ بالبيانات والمقالات وينتهي بالاعتصامات والمظاهرات التي أسقطت الطغيان والفساد السابقين. لقد أجريت الانتخابات التونسية في أيام قليلة وأعلنت النتيجة وسيشكل حزب النهضة الحكومة إما مستقلا وإما بالتحالف كل هذا حدث لأن الثورة هناك فرضت رأيها ومنطقها ووجهتها على الكل، ونحن في مصر – وفي ضوء واقع سياسي أسهم فيه الجميع وعلى رأسهم الإسلاميين للأسف - سيكون مجلسنا قاصرا عن سحب الثقة في الحكومة القادمة، ولا نستطيع تكوين حكومة منتخبة بحجة أن دستور 71 – الذي دهس وخلع مع النظام كله – لا يزال رئاسيًا، لتبقى مهمة مجلس الشعب القادم التناحر والتضارب والتصارع تحت القبة ليعلنوا الفشل في نهاية الأمر عن تشكيل لجنة الدستور الجديد فضلا عن كتابته، لنرى مصر في ظل هذه المعطيات الكثيرة ماضية ومستقبلة في ظل نظام قديم عقيم وخيم تقوض ثورته بالمحاكمات العسكرية والالتفاف السياسي والضغط الاقتصادي والابتزاز الإعلامي والإعلاني.. في مشهد يصيب باليأس الذي أصابنا قبل 25 يناير لتنطلق معه الحناجر بإسقاط كل فساد تناله أيديهم وحناجرهم القوية! * باحث في التاريخ والتراث