وصلنا معكم الآن إلى نقاط مفصلية في هذه المعالجة البحثية، أو بمعنى مرادف أدركنا ما يسمى ببيت القصيد، إلا وهو قيمة المعونة الأمريكية المقدمة لمصر في الميدانين الاقتصادي والعسكري.. وقبل أن نشرع في بيان أرقامها وأحجامها يتعين علينا أولا أن نطرح حزمة من الأسئلة المهمة التي ستجد إجاباتها بكل تأكيد –لأول وهلة- لدى أي عاقل دون أي عناء منه في التفكير أو البحث فيها والتمحيص، حيث ستشكل الإجابات المرصودة، عليها زخمًا من الأفكار التي نرمى منها للإدراك بمدلولها جيدًا، وأول طائفة الأسئلة يتصل أولاً بأغراض المعونة الاقتصادية و تتحدد بالاستفسار عن:هل حققت تلك المعونة الاقتصادية نماء اقتصاديًا حقيقيًا لمصر؟ هل ساهمت في نهضة صناعية وإنتاجية؟هل نشطت الصناعات التصديرية أو أعاقت التجارة الاستيرادية الاستهلاكية المدمرة على الاقتصاد؟ وهل هي ساهمت في رفع سائر المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد المصري، لتتطابق مع المعايير العالمية، مثلا كرفع معدلات الناتج القومي وزيادة نسب التوظف وتحقيق فائض في موازين المدفوعات، من عدمه؟ وثاني طائفة الأسئلة يتصل بأغراض المعونة العسكرية، نبدأها باستفسار هل يعقل أن تعطينا أمريكا ربيبه إسرائيل ودافقة دماء الحياة داخل شرايينها، هل يعقل أن تعطينا أسلحة نستطيع بها أن نبيد إسرائيل؟هل تقبل أمريكا بأن تهدد جيوش مصر حدود وكيان إسرائيل؟ هل تقبل أمريكا بأن يتفوق الجيش المصري على نظيره الإسرائيلي؟هل يمكن أن نقتصر على معونات أمريكا العسكرية في تدعيم جيشنا استعدادًا لمعركة في المستقبل مع إسرائيل –هي بالضرورة-حتمية كما حتمية التاريخ؟ الإجابة على سائر الأسئلة المطروحة يمكن أن يتلخص في قول واحد بل وكلمة موجزة هي:لا.....أن لم تكن الإجابة في كلمتين هي:ألف لا........إذن هل يتوجب علينا رفضها؟ بكل تأكيد-أيضًا - لا.....لكن علينا أن نفتش جيدًا في المقابل الذي نقدمه مقابلها ونسعر قيمة خدماتنا التي نبيعها مقايضتا بتلك المعونه، وقد سبق لى أن أشرت في المقال السابق إلى طائفة من الخدمات الاستراتيجية تمنحها مصر لأمريكا وربيبتها أو حليفتها إسرائيل. نبدأ أولاً في بحث ما يتعلق بالحجم الأضخم أو الشق الأكبر من المعونة ويقدر بنحو 1،3مليار دولار وهو الشق العسكرى على أن نرجئ –لمقال قادم-ما يتعلق بالشق الأصغر من تلك المعونة والذي كان يقدر بنحو 250 مليون دولار وهو الشق الاقتصادي.
حجم المعونة العسكرية عند إنشائها
وفي عجالة سريعة فإن المعونة الأمريكية لمصر هي مبلغ ثابت سنويًا كانت تتلقاه مصر منذ توقيع اتفاقية السلام عام 1979، حيث أعلن الرئيس الأمريكي -في ذلك الوقت- جيمي كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد وبواقع 3 مليارات دولار لإسرائيل، و1.55 مليار دولار لمصر، منها 1.3 مليار دولار معونة عسكرية والباقي وقدره مائتان وخمسون مليون دولار معونة اقتصادية.ومن المعروف أن المعونة العسكرية لمصر معونة عينية بمعنى أن أمريكا لا تعطى المبلغ نقدى في صوره دولارات سائلة ولكن يتم تحويل معظم هذا المبلغ مباشرة من الحكومة الأمريكية إلى شركات ومصانع السلاح الأمريكية التي تقوم بالتصنيع والتوريد كما يدفع منها إلى شركات الشحن الأمريكية التي سوف يحمل على ظهر سفنها السلاح متوجها لمصر. ولأن مبلغ المعونة العسكرية يظل –واقعيًا -حبيسًا لا يغادر الأراضى الأمريكية فإنه ليس لمصر أن تفاضل بين شركات السلاح العالمية في الأسعار أو الموصفات القتاليه.. حيث تفرض الشركات الأمريكية أسعارًا مغالي فيها وكذلك مواصفات فنيه ذات محدودية متواضعة للغاية، ويترتب على غلو أسعار الأسلحة انخفاض كمية الأسلحة الموردة بمبلغ المعونة، ويقول خبير عسكرى مصري إن القيمة الحقيقية للسلاح الأمريكى المشترى بمبلغ المعونة العسكرية المقدر بنحو 1،3مليار دولار أمريكى لا تتجاوز 500 مليون دولار، على أن يستقطع منها جزء تخصصه أمريكا لبعض ضباط الجيش المصري لاستجلابهم لزيارات للأراضى الأمريكية في صوره ما يسمى -ظاهريًا - دورات تدريبية بينما هى-فى واقع الأمر-استقطاب لأفراده تجاه البريق المجتمعى الأمريكى وترتبط بتلك الزيارات والدورات مزايا أمريكية في صورة بدلات وهدايا ونزهات يصطحبهم فيها العديد من الفتيات الجميلات العاملات في المخابرات الأمريكيه "سى أي إيه"، كما كان يتدفق من أموال المعونة العسكرية جزء كان يقدم إلى كبار المسئولين المصريين والحكام في صورة عمولات تدفعها شركات ومصانع السلاح الأمريكية المتنافسة على قضم الكعكة المصرية في عقود التصنيع والتوريد.
إذا لم تكن المعونة العسكرية المقدمة لمصر داعمة حقيقية لمواجهة حتمية مع عدونا الرئيسى إسرائيل الذي يهدد أمننا وأمن أمتنا العربية ويحتل أراضى فلسطين ويشرد أهلها الفلسطينيين، فيا ترى إلى من ستوجه؟ بالتأكيد فإن رؤى أمريكا الحقيقية هي أن تكون بغرض أن يستخدمها الحاكم الديكتاتور لإخماد الثورات التي يمكن أن تنشب في البلاد بسبب مظالمه وفساده وسوء إدارته للبلاد أو – من جهة أخرى – فقد تتقرر لمصر لتأمين الحدود مع إسرائيل من أن تخترقها الجماعات المسلحة التي تنشر الرعب في روع الإسرائيلين. لذا فإنه من المؤكد أنه لا يمكن أن يتوفر في أسلحة تلك المعونة كافة التقنيات الحديثة ومستوى الرقى الحربى الذي في حوزة الجيش الأمريكى أو حتى الإسرائيلى ومن ثم تصبح عديمة الجدوى لقلة كفاءتها وتخلف موديلاتها. وقد ورد في هذا الشأن تصريح خطير للمدعو "جنسون" نائب رئيس جمعية الصناعات الحربية الجوية الأمريكية، واصفًا السلاح الأمريكى المقدم لمصر على أنه خردة أو يقترب من التخريد حيث إن تلك الأسلحة ستخرج قريبا من الخدمة من أمثلتها الطائرات المقاتلة والقاذفة فانتوم طرازات إف 14،15،16 والمصفحات طراز برادلى والطوافات(الطائرات الهليوكبتر)ماركة إيباتشى واستطرد "جنسون" فيما يخص الأسلحة الأمريكية المباعة لكل من السعودية والخليج والتي سلمت إليهم في آواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات: أن طائرات الأواكس وصواريخ الباتريوت سيتوقف تصنيعها تمامًا في وقت قريب.. كما أكد جنسون أن أمريكا بيدها سلطه التحكم والاحتكار لسوق السلاح ويمكنها معاقبة المشترين بإغلاق الحنفية أو وقف خدمات ما بعد البيع كأعمال الصيانة وتوريد قطع الغيار
المعونة العسكرية- فى آخر تحديث
مرت المعونة العسكرية لمصر- كأهم مكون في العلاقات المصرية الأمريكية-خلال فترة ما بعد الثالث من يوليو لعام 2013 وهو تاريخ عزل الرئيس السابق دكتور محمد مرسي- وحتى الآن- للعديد من المحطات المهمة تتراوح بين المنع والتخفيض ثم المنح و يجدر بيانها على النحو التالى: فبعد ثلاثة شهور من العزل وبالتحديد في اكتوبر2013 قررت تجميد جزء من المساعدات العسكرية ولاسيما أنظمة التسليح الثقيلة، وكان المقصود –وقتها- وقف تسليم عشرة طائرات هليكوبتر ماركة إيباتشى وقد كتب لهذا القرار حياة استمرت لمدة سنة كاملة إلى أن توقف بعدول أمريكا في أكتوبر لعام 2014عن قرارها السابق، وقررت الإفراج عن تلك الطائرات وتسليمها مصر، وبقدوم الأيام الأول من إبريل2015 قررت الولاياتالمتحدة وقف قرار التجميد تمامًا وإعادة ضخ الأسلحة السابق الاتفاق عليها من قبل والتي تشمل 12 طائرة من طراز إف16، وعشرين صاروخا طراز هاربون، وقطع غيار خاصة بعدد 125دبابة طراز ابرامز فضلا عن تنفيذ كامل مساعدات كامب ديفيد المقدرة بنحو1300مليون دولار. ويرى بعض من الخبراء والمحللون العسكريون المحسوبين على النظام المصري الجديد أن سياسات أمريكا فيما يخص مصر ما بعد الثورة تتعرض لكثير من التخبط وعدم الحصافة، فيما يرى آخرون أن السياسة الأمريكية لم تكن متخبطة البتة، وإنما تتغاير بحسب تغاير الظروف والمتغيرات الدولية عمومًا والإقليمية في الشرق الأوسط بشكل خاص والمحلية في مصر على وجه الخصوص، فعلى سبيل الإيضاح للصورة فهم يرون أن أعمال العنف التي اتسمت بها الأحداث بمصر عقب الثالث من يوليو لعام 2013 وما صاحبها من أعمال قمع وبطش، كان يملى على أمريكا – فى سبيلها لمنع إراقة الدماء-أن تتوقف فورًا عن إمداد الحكم بالأدوات التي تجعله يقهر الجماعات المؤيدة للحكم المعزول أو يبيدها بالكلية، ومن ثم كان ذلك تفسيرًا منطقيًا ينسجم مع التوجهات الأمريكية وثقافتها الديمقراطية ليس إلا.. أما فيما يخص الموقف الأمريكى التالى للأول والذي تقرر في أكتوبر عام 2014 بإعادة تسليم مصر الطائرات الأباتشي فأيضًا له ما يفسره من قراءة الأحداث التي عاصرته ومن ضمنها نجاح الحكم الجديد في استرضاء أمريكا بإبداء نيته في استكمال المسيرة الديمقراطية بمصر مع ضربة بيد من حديد للجماعات المسلحة في سيناء التي يمكن أن تهدد الحدود مع إسرائيل ومن ثم فإنه أصبح يمكن لجيش وشرطة مصر أن تنوب عن الجيش الأمريكي في فرض الاستقرار بمنطقة إقليمية هامة جدا وهى سيناء وبالطبع بالإضافة إلى محاولة الحكم الجديد إلى انتزاع دور غابت عنه مصر –بكل أسف- أثناء اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي، وهو دورها التقليدى كصمام أمان داخل الكيان العربي، ومن ثم فإن تدعيم الحكم الجديد الوليد قد يقود إلى تحقيق مزيد من الاستقرار بالمنطقة في ظل التشرذم الحادث بدول الشرق الأدنى والأوسط في ليبيا واليمن وأيضًا في سوريا والعراق مع المحافظة على أوضاع مستقرة لدول البترول وهى السعودية ودول الخليج البترولية.
أما تفسير الموقف الأمريكى الأخير بقرارها إعادة تسليم مصر المعونة العسكرية بكامل حجمها وكما سابق عهدها تمامًا، ولو أنه قد جاء منقوصًا حيث ترافق مع القرار بند يقضى بأنه سيتم بدءًا من عام 2018 إلغاء نظام الائتمان الممنوح للحكومة المصرية عند التعاقد مع الشركات الأمريكية على صفقات سلاح، وهذا من شأنه أن يقلل من فعاليات تلك المعونة ويقيد مشتريات مصر من السلاح الأمريكى، ولذلك البند المقيد قصة سوف نوردها لاحقا بعد تقديم تفسير للموقف الأمريكى الأخير الذي تقرر بعد بروز الدعم السعودى والخليجى لمصر يوليو 2013، حيث أبرمت صفقات سلاح كبرى بقيمة 8.8 مليار دولار مع دول أخرى بما يبعد مصر رويدا رويدا عن السيطرة الأمريكية، ويعيد رفع كفاءة القوات المسلحة المصرية ويفعل نديتها للجيش الإسرائيلي في أي نزاع مقبل، فقد أبرمت صفقة مع فرنسا بقيمة 5.5 مليار دولار تتضمن توريد24 طائرة مقاتلة فرنسية متطورة للغاية من طراز رافال كما تجرى مفاوضات أخرى مع جمهورية روسيا الاتحادية لعقد صفقة أسلحة متطورة قيمتها 3.3 مليار دولار، لذلك فإن للقرار الأمريكى باستئناف كامل المساعدات العسكرية يرجع بالأساس لرغبة واشنطن في عدم فقدان الحليف المصري الذي بنت معه علاقات استراتيجية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وذلك في لحظة فارقة من لحظات التاريخ المعاصر للمنطقة العربية برمتها، الأمر الثانى هو تفادى خسارة صفقات عسكرية ضخمة تكسبها منها منافسيها في سوق السلاح العالمى فرنساوروسيا.
قصة إلغاء بند الائتمان الممنوح للحكومة المصرية
كانت الحكومة الأمريكية تمنح مصر بموجب البرنامج الأمريكى للمساعدات العسكرية الأجنبية ما يسمى نظام ائتمان للحكومة المصرية بضمان اعتمادات المساعدات العسكرية التي تقدم لمصر سنويًا بمعنى إعطاء الحكومة المصرية مقدرة إبرام صفقات سلاح مع الشركات الأمريكية بأكبر من مبالغ المعونة السنوية على أن تسوى القروض من ميزانيات الاعتمادات المقررة في السنوات اللاحقة، لكن الولاياتالمتحدة اتخذت أخيرًا خطوة تتضمن إيقاف نظام الائتمان الممنوح لمصر لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ابتداءً من السنة المالية لعام 2018، وهو نظام ائتمانى بضمان الاعتماد السنوى المقرر لمصر ببند المعونة العسكرية، وبناء على هذا القرار لن تعود مصر قادرة على تمويل تدفقاتها النقدية ضمن أمريكا، وهي الآلية التي سمحت لها على مدى عقود بطلب معدات عسكرية أمريكية الصنع مقدمًا، بموجب نظام الائتمان الذي يخولها وفاء قيمتها في وقت لاحق وفي سنوات تالية ويمهد هذا القرار كما ورد بتقارير إخبارية لشبكة "بلومبيرج" السبيل أمام الحكومة الأمريكية في المستقبل لوقف هذه المساعدات الأمريكية أو الحد منها أو ربطها مع شروط تتلاءم وتوجهات الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورأت الشبكة أنه ومن المؤكد أن يتم اتخاذ مسار مخالف لذلك، عقب الانتخابات الأمريكية في عام2016 مع تولى رئيس أمريكى جديد يعقب الرئيس أوباما.
الختام
قدمنا تحليلاً موضوعيًا يتسم بالحيدة والتجرد في مسألة المعونة العسكرية الأمريكية لمصر من المهد إلى اللحد يجلى لنا كثير من النقاط الجوهرية في تلك المسألة ويتبقى لنا في مقال قادم إن شاء الله بحث الشق الثانى من تلك المعونة وهو المعونة الاقتصادية لمصر.