التجربة التونسية استفادت من تحولات تجربة الربيع العربي في مصر مرتين ، المرة الأولى عندما تبلورت حركة الاحتجاج الشعبي الواسعة ضد الإخوان والرئيس الأسبق محمد مرسي ، مدعومة بجهود مؤسسات وأجهزة الدولة العميقة ، وسوء تقدير الإخوان للموقف والتعنت الغريب في الاستجابة للضغوط أو محاولة احتوائها وتفكيكها والدخول في رهانات خاطئة جدا ثبت أنها كانت سرابا ، فقد نجحت حركة النهضة باستيعاب الدرس المصري في إفشال الخطط المشابهة التي نشطت بقوة في تونس لتكرار نموذج "تمرد" ، وكان تراجعها خطوات بالتخلي على الحكومة والتنازلات التي قدمتها في المجلس التأسيسي أثر كبير في احتواء موجة الغضب والالتفاف الخطيرة ، فمرت بسلام ، ونجت تونس من هذا المأزق . المرة الثانية التي استفادت فيها تونس من التجربة المصرية ، كان في المآلات التي انتهت إليها تجربة التدخل العسكري والإطاحة بالمسار الديمقراطي ، لم يكن أحد يتصور أن تشهد البلاد كل هذا العنف وتلك القسوة المفرطة وشلالات الدم وما أعقب ذلك من اضطراب سياسي واسع وانقسام اجتماعي أعمق وأعنف مما سبق وتعثر اقتصادي كبير وانتكاسات أمنية وتغول للقمع ضد الجميع وفتح أبواب المستقبل على المجهول حتى الآن ، هذه المآلات أضعفت بقوة من اندفاعات تيار "الثورة المضادة" في تونس ، والمدعوم إماراتيا ، بعد أن كان يمني نفسه بحسم الأمور سريعا وبشكل خاطف على المنوال نفسه ، كما كان وجود القيادي "اليساري" المنصف المرزوقي في رئاسة الجمهوية عاملا أكثر من إيجابي في تفكيك دعاوى الثورة المضادة وإضعاف أخلاقيتها . والحقيقة أن تجارب الربيع العربي وتحولاتها ترتبط عضويا ببعضها البعض ، وليس فقط التجربتان المصرية والتونسية ، فلا يمكن على سبيل المثال فصل مسار التجربة التونسية الآن عن التطورات في ليبيا ، فالحرب الأهلية الليبية حاضرة في خيال التونسيين ، حكومة ومعارضة ، والجميع ينظر إليها بفزع ، كما ينتظر الجميع ما يؤول إليه هذا الصراع لكي يتم إقرار الخطوة التالية في الصراع السياسي داخل تونس ، لأنك لا تعرف الجار الجديد لك هناك من يكون ، أيضا لا يمكن أن تفصل تطورات الربيع العربي في ليبيا عن التطورات في مصر وحساباتها ، ولا يمكن عزل مستقبل التطورات المصرية عن مآلات الربيع العربي في سوريا ، ولذلك لا يخفى على مراقب الانحياز المصري الرسمي للنظام السوري ، وإصرار مصر على عدم إسقاط بشار والإلحاح على جعله محورا لأي تسوية أو شريكا فيها ، لأن انكسار نظام بشار وجيشه وتفكيك أجهزته ومؤسساته يمثل رعبا للجميع ، أيضا لا يمكن فصل مسار الثورة السورية عن مؤثرات الأوضاع في اليمن لارتباط الأمرين بصراع إقليمي معقد . في تونس الآن وعي بأهمية أن يكون مسار التجربة مستقلا عن التجارب الأخرى ، وهذا الوعي لدى السلطة ولدى المعارضة سواء ، وأقصد السلطة السياسية ، بما في ذلك الرئيس التونسي قائد السبسي ، وإن كانت الدولة العميقة وأجهزتها تمثل إعاقة شديدة ورغبة في استعادة موازين وأوضاع ما قبل الثورة ، ويلاحظ الجميع عمق العلاقة بين "الشيخين" ، حسب التعبير اللاذع للساخطين هناك ، ويقصدون بهما السبسي والشيخ راشد الغنوشي ، فهناك تواصل جيد للغاية على المستوى السياسي والإنساني بين الاثنين ، وأكثر من مرة يثني السبسي على حركة النهضة والتزامها بالمسؤولية تجاه الوطن ، وهناك خطوات ، ولو صغيرة ، يتخذها السبسي ، تدلل على أنه يريد أن يتخذ مسافة بعيدا عن التجاذبات السياسية الحزبية ، بما في ذلك حزبه "نداء تونس" ، ومؤخرا اتخذ قرارا بأن من يعمل معه في مؤسسة الرئاسة يستقيل من انتمائه لحزب نداء تونس ، أو يستقيل من الرئاسة ويبقى في الحزب ، كما ظهرت له تصريحات خشنة تجاه حكومة "الثورة المضادة" في ليبيا ، حكومة طبرق ، واعتبر أن الواقعية تحتم عليه التعامل مع الحكومة في طرابلس، كما أن السبسي أصبح هو شخصيا جزءا من الانقسام الشديد الذي يضرب حزب "نداء تونس" الآن ، والكتلة النيابية له في البرلمان لم تعد واحدة ، ومستقبل الحزب كله غير معروف حاليا . نجاح النهضة في الرجوع خطوات من صدارة المشهد السياسي ، أحدث فراغا أمام مخططات صناعة "فزاعة الإسلاميين" أو فزاعة الإخوان ، فلم تجد القوى السياسية ما تحتشد ضده ، ثم بعد التقاط الأنفاس من معركة البرلمان والرئاسة ، انتقل الصراع إلى داخل تحالف خصوم النهضة ، وعندما بدأت الحكومة في وضع سياسات اقتصادية اكتشف اليسار التونسي المتحالف مع النداء أنه دخل في لعبة بلا مستقبل ، فهذا مشرق وذاك مغرب ، والاختيار الاقتصادي للاثنين شديد التناقض . تشعر في تونس أن البلاد ما زالت في مرحلة انتقالية ، ولم تحسم اختياراتها بشكل صريح ، وأن هناك صراعا غير معلن بين المتمسكين بالربيع الديمقراطي وأشواقه ، وبين القوى التي تجذب "الدولة" إلى ما قبل الربيع ، غير أن الحسابات الدولية والإقليمية تخدم التيار الديمقراطي أكثر ، حيث يقف الاتحاد الأوربي بقوة وراء التوافق السياسي وترسيخ دولة ديمقراطية تمنع انزلاق البلاد نحو الانقسام وربما الحرب الأهلية بما يتيح الفرصة لقوى التشدد والإرهاب في تهديد الجميع ، والدرس الليبي حاضر ، عربيا وأوربيا ، أيضا هناك انقسامات في الموقف العربي تجاه الحالة التونسية ، فالجزائر قلقة كثيرا من الدور الإماراتي في تونس ، وهذا ما فهمته من أكثر من سياسي تونسي ، وهو ما جعل الموقف التونسي أكثر تفهما لدور حركة النهضة وتواصلا معها ، وهو موقف مشابه للموقف الجزائري في ليبيا أيضا حيث تحتفظ بعلاقات متينة مع حكومة الثورة في طرابلس وفجر ليبيا ، أكثر من علاقتها مع طبرق وحفتر التي تعتبرهما ذراع الإمارات ، وبعيدا عن كل ذلك ، فهناك حماسة تصل لدرجة الجنون لدى الشباب التونسي من كل التيارات تجاه الحرية التي انتزعوها ومن المحال أن يتنازلوا عنها تحت أي ظرف من الظروف. بعيدا عن أي تفاصيل ، فلا يوجد أدنى شك في أن نجاح التجربة الديمقراطية في تونس ، وانتصار الربيع السلمي ، سيكون ملهما لتجارب الربيع العربي في كل موقع ، كما سيكون مشجعا للعالم على الدفع باتجاه الاختيار الديمقراطي ، باعتباره الأقل كلفة وخطورة في شرق أوسط يموج بالخوف والقلق والفوضى والدم .