لا يخلو حديث لشيخ الأزهر في الآونة الأخيرة من شكوى وغضب مما آلت إليه الأمور في ما يخص الدين وعلومه وأحكامه وقواعده ، واقتحام كل من هب ودب لأدق مسالكه برعونة وجهل وسوء أدب أيضا ، وفي الندوة التمهيدية للمؤتمر الذي يعده الأزهر لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية ، تكلم فضيلة الدكتور أحمد الطيب بألم واضح من هذه الفوضى التي لا رادع لها في اقتحام علوم الدين وقواعده وأحكامه ، وقال في كلمته ما نصه : (ويكفي دليلًا على هذا التخبط في تناول تجديد الخطاب الديني أنك تسمع بعض الأصوات التي تنادي بإلغاء الخطاب الديني جملةً وتفصيلًا، وتراه جزءا من الأزمة أو تراه هو الأزمة نفسها، وليس حلًّا لها، وهؤلاء لا يفصحون عن مقتضى دعوتهم هذه ولازمها المنطقي، وهو تحويل مؤسسة الأزهر إلى متحف من متاحف التاريخ، بكل تجلياتها العلمية والروحية والثقافي، وعبر أكثر من عشرة قرون، وبعد أن بات الغرب والشرق يُقرَّان بأنها أقدم وأكبر جامعة على ظهر الأرض) . وهنا يشعر الشيخ بوضوح أن هناك ما يمكن وصفه "بمؤامرة" على الأزهر ، تقصد إلى إماتته وإزاحته وتحويله إلى متحف لكي يخلو الجو للجهالة والتطرف والحمق أن يسود الحالة الدينية ، واعتبر أن هذه التحركات الفوضوية لا تقل خطورة عن دعاوى الإرهاب المتمسح بالدين ، بل اعتبر أنهما خطان متكاملان ، وأن الأيادي العابثة بمصير الوطن ومستقبله تستخدم الطرفين لهدم كل شيء ، ويضيف : (هذا الانفلات تقف وراءه أجندات غريبة على الإسلام والمسلمين، تتوازى تمامًا مع أجندات التَّفجير والتَّدمير والنَّسف من الجذور، والمقصود من وراء ذلك وهو لا يخفى على كل ذي لب هو: ضرب الاستقرار وزرع بذور الفتنة والانقسام.. وهو هو أسلوب المستعمرين وعبثهم بمصر والعالم العربي منذ أكثر من قرنين من الزمان) . ويضيف الطيب لمعالم هذه الفوضى وأنها متكلفة وغرائبية بقصد إهانة الإسلام نفسه واختراع معارك لا وجود لها في عالم اليوم لمجرد التجريح والإهانة ، فيقول : (انظروا أيُّها السَّادة العُلَمَاء الأجلَّاء إلى طواحين الهواء التي تستهلك جهدنا وطاقتنا، والتي يسهر لها الناس حتى مطلع الفجر، وابحثوا عن الموضوع لتجدوه أخيلة وأوهامًا وحربًا كلامية حول الزواج من الطفلة الصغيرة التي لم تبلغ الحلم... وإني لأتساءل: في أي قطر من أقطار العالم العربي والإسلامي أو أجد - مثالًا واحدًا للزواج من طفلة صغيرة لم تبلغ الحلم! وأين توجد هذه الظاهرة التي يستعر حولها النقاش والحوار، ومنذ متى كان المسلمون يزوجون الطفلة الصغيرة ويقيمون لها الأفراح ويزفونها إلى زوجها الكبير أو الشاب؟! وفي أي كتاب من كتب تاريخ المسلمين أقرأ هذا التهويل؟ ومعركة حد الردة التي تبعث ن بطون الكتب للتهجم على التراث.. ألم يشاهد هؤلاء المتهجمون البرامج الفضائية التي يظهر فيها شباب مصري ملحد، يتباهون بإلحادهم، ويجادلون ما شاء لهم الجدل والحوار، ويكاثرون بجمعياتهم وأعدادهم؟! مَن مِن هؤلاء الملحدين أُقيم عليه حَد الردَّة أو مسَّه أحد بسوء. هل صدرت كلمة واحدة تطالب بتطبيق حد الردة على هؤلاء؟! إن هذه البرامج التي تقتل أوقات المصريين وتعبث بوحدة صفهم وبتركيزهم وانتباههم لما يُدبَّر لبلدهم، هذه البرامج تتعامل مع «أشباح» لا وجود لها على أرض الواقع في بلاد المسلمين، ومن المضحك أنْ يزعم لنا هؤلاء أنهم إنما جاءوا لتجديد الخطاب الديني، وأن العناية الإلهية بعثتهم ليجددوا لنا أمر ديننا هكذا في ثقة يحسدون عليها..) . غضب شيخ الأزهر لم يكن شخصيا ، بل بدا أنه غضب يشمل قيادات الأزهر كلها ، وهو ما يتبدى بوضوح في جرأة وكيل الأزهر فضيلة الدكتور عباس شومان في رده على هذه الموجة الفوضوية التي اخترقت الإعلام المصري بقوله : (أن الإعلام لا يعرف اسم العلوم الإسلامية حتى يجدد دينها، وأن مطالبهم هي التخلص من التراث بشكل كامل ونبحث عن دين جديد ورسول جديد، حيث لا يمكن للأزهر أن ينحدر إلى هذا المستوى) ، وهذا كلام شديد العنف ، بل وصل التعنيف إلى هذا الجهول الذي دعا إلى ما يعرف بمليونية خلع الحجاب على سبيل المنظرة والدعاية الفارغة ، وعلق وكيل الأزهر عليه بقوله : (إن أحد المخرفين دعا لخلع الحجاب ، وهؤلاء هم دعاة التجديد) ، وبلهجة غير مسبوقة في خطاب قيادات الأزهر قال الدكتور عباس شومان : (أن التجديد في الأزهر لا يمكن من خلاله المساس بالتراث، حيث إن المطلوب هدم الدين بالكامل، حيث لا يوجد لديهم بدائل) مضيفا : (لو عندكم بديل هاتوه وريحونا.. وشكرا أنكم اعترفتم بالقرآن ودلوقتي تقولون بعض الآيات لا تناسب الزمان، طيب شيلوه من المصحف وريحونا) هذا غضب غير مسبوق في الأزهر ، وعلى من يعنيهم الأمر الانتباه إلى خطورته ، لأنه يحمل معاني ربما تشير إلى أن هذه الموجة الفوضوية في الدين ومرجعياته محمية من جهات رسمية ، وبطبيعة الحال فإن هذه الموجة المستهترة تعطي الانطباع بأن الغارة الحالية هي على الإسلام ذاته ، وليس على تيارات سياسية تنتسب إليه ، وهذا ما يزيد القلق ، وفي كل الأحوال ، فإننا أمام غضب محمود ، لله ولدينه ولكتابه وسنة رسوله ، وبعيدا عن السياسة وشجاراتها ، فهذا تطور إيجابي ومهم في الأزهر ، المؤسسة العلمية والدينية الأكثر عراقة في مصر والعالم .