بوجوه عابسة لا تليق بوجوه أطفال لم يتجاوزا العاشرة بعد، يستقبل عشرات الأطفال القابعين بمجمع للقمامة بالخانكة نهارهم في السادسة صباحًا، يتوجهون نحو حاويات القمامة، يغوصون فيها باحثين عن كل ما له قيمة، وينتهي يومهم في السابعة مساءً على وجبة عشاء مع أفراد العائلة بعد يوم شاق من العمل.. هكذا يبدأ علي ومحمود يومهما وهما لم تتجاوز أعمارهما 12 عامًا، ولكن وضعتهما ظروف الحياة في مكان ينتهك أبسط حقوق الطفل، وهي فترة طفولته، ويتحول إلى عامل يتعب ويشقى من أجل مساعدة والديه على ظروف المعيشة. بلهجة تتسم بالثقة بالنفس يقول محمود: "الشغل مش عيب، نحن نعمل كي نعيش"، ويستعرض علي الذي يمتلك بنية جسدية صغيرة توحي بأنه أصغر من عمره الفعلي، أنواع الخردة التي يجمعها من الحاويات، التي تنقسم بشكل أساسي إلى أربع فئات "البلاستيك، الحديد، علب المشروبات الغازية والخبز الجاف الذي يباع كأعلاف للماشية". وإلى جانب الخردوات التي تباع لاحقا لتجار الخردة بعد فرزها وفقا للنوع، فإن الحاويات قد تكون مصدرًا لحاجات أخرى تصلح لاستعمال الأسرة كبقايا الطعام وألعاب بالية تشكل مصدر بهجة لأطفال العائلة. يقر أبو جمال الذي قابلته "المصريون" في الخانكة، أحد مناطق تجمع العائلات التي تعمل في مجال فرز النفايات، أن "أسلوب الحياة هذا ليس ما أتمناه لأبنائي، لكن قله الحيلة فرضت علينا أن نعيش بما لا نرضى به". وتابع: "عندما يبلغ أبنائي سن السادسة ألحقهم بالمدارس الحكومية لكنهم يواجهون برفض المعلمين والطلبة لهم، لكونهم ينتمون لأسر تعمل في جمع النفايات". ويقول: "بماذا سيفيدهم العلم، الشغل أصلح لهم من أن يكونوا محط سخرية بين الأولاد"، مقللًا من المخاطر المحيطة بأبنائه جراء العمل في مهنة تصنف ضمن أسوأ أنواع عماله الأطفال، وبجملة مقتضبة ينهي الحوار "ربنا اللي بيحمي". ففي حين لا يعد نبش الحاويات جريمة يعاقب عليها القانون، لكن هذا النوع من عمالة الأطفال يقود الأحداث في بعض الأحيان إلى الانحراف والتوجه إلى السرقة والتسول. علي يعمل في جمع الخردة من الشوارع من خلال نبش القمامة ليحصد منها على ما يرده من مواد بلاستيكية أو علب الكانز أو العيش العفن وينتهي يومه في السادسة مساء بعد يوم شاق من العمل التي يصل إلى 12 ساعة يوميًا، على حد تعبيره. وقال علي، أحد الأطفال العاملين في جمع الخردة، إنه يتجه في الصباح مع زميلة محمود ومعهما عربة كارو، يدور بها في الشوارع باحثًا قي حاويات القمامة ليعثر منها على ما يحتاج إليه من مواد بلاستيكية وعلب الكانز حتى يرجع إلى مخزن الخردة ليفرز ما حصده لكي ينتهي عمله. وتابع علي: "أنا مكنتش حابب أعمل بهذه المهنة ولكن ظروف والدي المادية هي التي جعلتني أعمل لكي أساعده علي ظروف الحياة الصعبة" الفقر الدافع الرئيسي قال كمال مغيث، الخبير التربوي، إن غالبية الأطفال العاملين في هذه المهنة ينتمون إلى أسر فقيرة، وغالبًا ما تتسم العائلة بتعدد الزوجات وكثرة الأبناء، موضحًا أن "العمل في هذا المجال يكون على شكل عمل أسري ويندرج ضمن ثقافة الأسرة والمجتمع المحيط بها". وأضاف مغيث، أن تلك العائلة حالتها المادية متردية واستعانت به ليكون عونًا لها على ظروف الحياة الصعبة، غير مدركة خطورة العمل الذي يقوم به الطفل، على حياته حتى أنها (أي الأسرة والده ووالدته) لم يفكرا بذلك همهما الوحيد كان إطعام أطفالهما الستة الذين لا يقدر والدهم، عامل النظافة، بدخله القليل غير الثابت على تأمين احتياجاتهم، وكان يعول على هذا الطفل (الذي ألحقه بعمر مبكر بسوق العمل) لمساعدته في تحمل عبء الأسرة وتكاليف حياتهم. ويؤكد، أن العمل في هذا المجال لا يقتصر على فئة معينة من المجتمع، إنما موجودة بين فئات عدة ومنتشرة في كل مناطق الجمهورية، مبينًا أن معالجة هذا النوع من العمالة يتطلب دراسة عميقة في أسبابه. وتابع: أن الأوضاع الاقتصادية أبرز أسباب عمالة الأطفال في هذا المجال، لكنه يلفت إلى عوامل أخرى كالظروف الأسرية والبيئة التعليمية داخل المدارس والعنف المدرسي والجانب الاجتماعي المتمثل في عدم إدراك خطورة هذا النوع من العمالة والتي غالبا ما تورث. وأنهى قائلا: "الفقر ليس بالضرورة الدافع الرئيسي للعمل بنبش النفايات، كونه يندرج بشكل أكبر تحت نطاق الثقافة المجتمعية للأسر العاملة في هذا المجال، فضلاً عن الدخل المرتفع المتأتي مقارنة بالمهن الأخرى، وعدم حاجتها إلى مهارات مهنية.
فجوة في التشريعات أكدت سمية الألفي، خبيرة حقوق الطفل والأسرة، وعضو اللجنة الاستشارية للطفولة بجامعة الدول العربية، أن الفقر وغياب تشريع واضح يمنع عمالة الأطفال في نبش النفايات يفاقم من المشكلة، وسط تنصل مؤسسات الدولة المختلفة بمسئوليتها عن حماية هذه الفئة، واهتمت المؤسسات الدولية بحقوق الأطفال العاملين المحرومين من الحماية بسبب عملهم، وأصدرت العديد من الاتفاقيات الدولية لحماية حقوقهم، وكانت اتفاقية حقوق الطفل من أهم هذه الاتفاقيات والتي استندت إلى وجوب شمول حمايتهم بشكل متكامل، وألزمت الحكومات بأن توفر لضمان نموهم وازدهارهم البيئة الآمنة والمناخ الصحي الملائم للرعاية المتكاملة، وتدعو اتفاقية حقوق الطفل إلى منهج شامل لتلبية الحقوق الأساسية للأطفال، من تعليم وصحة وحماية شاملة. ويعكس التصديق شبه الإجماعي على اتفاقية حقوق الطفل، بالالتزام العالمي بحماية حقوق الأطفال، إلا أن الواقع الفعلي بالبلدان المختلفة يعكس بشكل متواصل انتهاكات مختلفة لحقوق الطفل. وأضافت الألفي، أن منظمة العمل الدولية أصدرت العديد من الاتفاقيات (16 اتفاقية و4 توصيات)، وألزمت جميعها الحكومات بضرورة تطبيق السياسات المتعلقة بحماية حقوق الأطفال، وكان آخر وأهم هذه الاتفاقيات الاتفاقية رقم 182 لسنة 1999، بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال، وتلتزم الدول بموجبها باتخاذ الإجراءات الفورية والفعالة لضمان حظر أسوأ صور عمل الأطفال والقضاء عليها على وجه السرعة. ويهدف معيار "أسوأ أشكال عمل الأطفال"، إلى حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال والقضاء عليها، مع الأخذ في الحسبان أهمية التعليم الأساسى المجاني والحاجة إلى انتشال الأطفال من جميع أشكال هذه الأعمال، مع تأمين ما يلزم لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع (الاتفاقية رقم 182). ينظم قانون العمل (رقم 12 لسنة 2003) تشغيل الأطفال العاملين، ويحظر القانون عمل الأطفال تحت سن الرابعة عشر، غير أن القانون سمح للمحافظين بتشغيل الأطفال بين الثانية عشرة والرابعة عشر في أعمال موسمية، خاصة في قطاع الزراعة، وينص القانون على أن ساعات عمل الأطفال من سن الرابعة عشر فأكثر لا ينبغي أن تزيد عن ست ساعات يوميًا، مع وجود ساعة على الأقل للراحة، ويمنع القانون عمل الأطفال أقل من 17 عامًا في الأعمال الخطرة التي ورد ذكرها في اللائحة التنفيذية مثل العمل بالمناجم أو في باطن الأرض، غير أن الدراسات والواقع الفعلى يظهر أن قانون العمل لا يتم تطبيقه، حيث تبين أن الأطفال يعملون في اليوم أكثر من ثماني ساعات، كما أنهم يعملون بدون عقود عمل أو تأمين اجتماعي أو صحي ويعملون في أوضاع خطرة وفي ظل ظروف تشغيل سيئة خاصة العاملين منهم في قطاع الزراعة.
والشيء المؤسف أن هؤلاء الأطفال قد تم استبعادهم من الحماية القانونية، حيث ذكرت المادة 103 من قانون العمل باستثناء الأطفال العاملين في قطاع الزراعة من تطبيق القانون، مما يعرضهم للإساءة والاستغلال والحرمان. وفي مصر تتباين تقديرات عمالة الأطفال بشكل كبير، وقد عبرت اللجنة الدولية لحقوق الطفل خلال مراجعتها للتقرير الدوري الثانى الذي أعدته مصر عن حالة الأطفال عام (1997)، عن قلقها بشأن غياب البيانات الموثق بها. مخاطر صحية عدة قال د. سيف الدين السيد، مدير عام الطب الوقائي، في مديرية الصحة بالجيزة، إن الظروف التي يعيشها الأطفال العاملون في جمع النفايات تجعلهم ضمن خانة الأطفال المعرضين للخطر، نظرا للمخاطر الصحية الكبيرة التي يتعرضون لها في عملهم. ويبدو جليًا جهل وأحيانًا أخرى استخفاف أولياء أمور هؤلاء الأطفال بالمخاطر الصحية التي يعرضون أبناءهم إليها، خصوصا أن نبش النفايات يندرج تحت بند الأعمال الخطرة. وتنص المادة الثانية من القرار رقم 118 لسنة 2003 على: - يجب على صاحب العمل الذي يستخدم أطفالًا أن يتخذ ما يلزم لتوقيع الكشف الطبي الدوري عليهم مرة كل عام على الأقل بمعرفة الهيئة العامة للتأمين الصحى، وكذلك عند انتهاء خدمته، وذلك للتأكد من خلوهم من الأمراض المهنية أو إصابات العمل والمحافظة على لياقتهم الصحية بصفة مستمرة، وفي جميع الأحوال يجب عمل بطاقة صحية لكل طفل تثبت فيها نتائج الكشف الطبى. فإن نبش الأطفال لنفايات المستشفيات يجعلهم أكثر عرضة للعديد من الأمراض الخطيرة كالإيدز والتهاب الكبد الوبائي والتيفود، لأن في هذه النفايات الكثير من أكياس القطن الملوثة وسرنجات مستخدمة. وأضاف سيف، أن في مثل هذه الظروف يتحول هؤلاء الأطفال من أن يكونوا طاقة إيجابية يتحولوا إلى أعباء علي المجتمع، وهناك ضرورة بتنسيق جهود منظمات المجتمع المدنى في مصر لخلق وابتكار بدائل وسياسات وأطر وفعاليات تضمن القضاء على عمل الأطفال وتكفل لهم حقوقهم في الحياة والأمان والنمو الصحى لضمان مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية لكل البشر. كيف يمكن القضاء على عمالة الأطفال؟ يؤدى عمل الأطفال إلى أضرار جسدية ونفسية تدوم مدى الحياة بالنسبة للطفل والمجتمع، ويجب أن تتزايد اهتماماتنا بمحاولة وقف عمل الأطفال بتوفير البدائل التي تضمن تمتع البنات والأولاد بالصحة والتعليم واللعب واللهو، وإتاحة الفرصة لعائلاتهم للحصول على دخول مناسبة والتمتع بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولابد من تعديل السياسات لتوفير هذه البدائل سواء على المستوى الدولي أو المحلى، ولن يتم ذلك إلا بتوفير فرص العمل اللائقة والحياة الإنسانية الكريمة لأهالي الأطفال لتمكينهم من تعليم أبنائهم والنهوض بمستواهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافى، وتحتاج هذه البدائل إلى إعادة التوزيع العادل للثروة بين الريف والحضر والعاملين بأجر وأصحاب الأعمال والمزارع الكبيرة، لكفالة التوازن والأمان الاجتماعي لكل المصريين. ويجب على وزارة التربية والتعليم وضع برامج لاستيعاب الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في كل مجتمع محلى بمدارسها وإزالة الأسباب التي أدت لعزوفهم عن التعليم لدمجهم مرة أخرى ضمن عملية التعليم. ويجب قيام وزارة القوى العاملة بإلزام مفتشي العمل والسلامة والصحة المهنية القيام بعملهم، والتفتيش الدوري المستمر على كل المنشآت والشركات والمزارع التي تقوم باستخدام الأطفال لتطبيق نصوص قانون العمل. ويجب قيام وزارة التضامن الاجتماعي بكفالة الأسر المتوفى عائلها وذات الدخول المنخفضة خاصة الذين يعولون أطفالًا بضمان توفير مبلغ لا يقل عن 1000 جنيه شهريًا حتى لا يضطروا لتشغيل أطفالهم وتمكينهم من تعليمهم. وهناك ضرورة بتنسيق جهود منظمات المجتمع المدني في مصر لخلق وابتكار بدائل وسياسات وأطر وفعاليات تضمن القضاء على عمل الأطفال وتكفل لهم حقوقهم في الحياة والأمان والنمو الصحي لضمان مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية لكل البشر.