لا أعرف كيف تجاهلت فضائيات الزعيق والصخب والخوف على مصر الحضارة ومصر العلم ومصر التنوير ومصر الأزهر ، تلك الحادثة الخطيرة التي شهدتها إحدى المدارس الشهيرة في الجيزة قبل أيام ، حيث تم حرق عشرات الكتب الفكرية وسط احتفالية من قيادات تعليمية وهم يحملون علم مصر باعتبار أن ما يقومون به عمل وطني وفي حب مصر ، جميع القنوات في حدود علمي ابتلعوا ألسنتهم الحداد ، وكأنهم لم يسمعوا ولم يشاهدوا ، ولك أن تتصور هذا المشهد لو كان قد وقع في بلد يحكمه نظام لا نرضى عنه فضلا عن أن يكون حكما له مسحة دينية ، بل لك أن تتخيل هذا المشهد حدث في حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي ، وليالي اللطم والعويل على التنوير التي كنت ستراها وتتابعها على جميع القنوات بلا استثناء ولمدة شهر كامل . وكيلة وزارة التربية والتعليم المسؤولة عن نطاق المدرسة دافعت عن حرق الكتب ، واعتبرت أنها كتب تحرض على التطرف والعنف وأنه لا بد من تطهير المدارس منها لأن ذلك واجب وطني ، على حد تعبيرها ، وقالت أن هذه الضجة التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي تهدف إلى وقف حرق الكتب في بقية المدارس ، ولكن هذا الضجيج حسب قولها ، لن يوقف المسيرة !! ، كما لم تنس أن تقول أن هذه الضجة يروجها الإخوان المسلمون لخدمة أهدافهم ، رغم أن أكثر من غضبوا لهذا المشهد هم شخصيات يسارية وليبرالية معروفة . الكتب الإرهابية والتي تحض على التطرف في مصر والتي رأت وزارة التربية والتعليم أنه لا بد من حرقها يأتي في مقدمتها كتاب "منهج الإصلاح الإسلامي" لشيخ الأزهر الأسبق العالم الجليل الدكتور عبد الحليم محمود ، وكتاب "أصول الحكم في الإسلام" ، للفقيه القانوني الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، أعظم من أنجبته مصر في تاريخها الحديث ، وواضع دستور سبع دول عربية على الأقل ، أيضا هناك كتب للشيخ علي عبد الرازق ، وكتب أخرى عن الشيخ جمال الدين الأفغاني ، وكتاب عن "دور المرأة في الحضارة الإسلامية" وكتاب في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم للدكتور زغلول راغب النجار ، وكتاب "أضواء على أهمية الصلاة في الإسلام" ، وكتاب "منهاج المسلم" للعالم الراحل الكبير الشيخ أبو بكر الجزائري ، وكتاب "أقلام في موكب النور" للكاتب الصحفي الراحل عبد العال الحمامصي ، فضلا عن كتب للشيخ محمد حسان . هذه هي نوعية الكتب التي تم حرقها ، أكثر من ثمانين كتابا ، وصفتها وزارة التعليم المصرية بأنه كتب إرهابية وتحض على التطرف ، بل وصل الخيال العقيم إلى حد القول بأنها كتب تشكك في القرآن الكريم نفسه ، أي والله ، حسب تصريحات وكيلة الوزارة في معرض الدفاع عن الحدث الهمجي ، وأنا على يقين من أن مجموعة الإعدام هذه لم تقرأ هذه الكتب ، ولا تعرف ما فيها ، بل ربما لا تعرف حتى تاريخ أسماء المؤلفين ، ولكن الرغبة في الدخول في "زفة" الموالاة ، وإثبات الوطنية الزائفة ، وإرضاء قياداتهم ، كان الدافع الأساس للعمل الأحمق . المشهد على صغره ، إلا أنه يحمل طابعا رمزيا ، وهو يكشف عن أن المناخ العام في مصر ، سياسيا وثقافيا ، مناخ موبوء ، مناخ عدمي وظلامي وشديد التخلف ، ويساعد على نمو مثل هذه الأفكار والمواقف والتصورات التي تهين صورة أي بلد يفترض أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين ، والمؤسف ، بل الخطير ، أن هذه الثقافة وتلك العقلية التي ولدها المناخ العدمي الذي نعيش فيه الآن ، تتمدد في سلوكيات أخرى تشمل معظم مؤسسات الدولة ، حتى مؤسساتها الدينية مع الأسف ، مثل وزارة الأوقاف التي لم تستنكف أن تحرق تاريخ أي عالم أو داعية أو إمام وتقصي المئات من الخطباء لمجرد أنه "يستشف" من بعض كلامهم أنهم لا يؤيدون الرئيس تأييدا واضحا وحاسما ، أو أن لهم ميولا معارضة . هذه أوقات قاسية على مصر والمصريين ، ومسار مظلم يحتاج إلى عناية إلهية لإنقاذ البلاد من مآلاته ، وقبل أن تصل مركبها إلى الهاوية .