جامعة عين شمس: استقبلنا 4500 طالب بالمرحلة الثانية للتنسيق عبر 14 معملًا مجهزًا    موعد المولد النبوي الشريف في مصر 2025.. إجازة 3 أيام وأجواء روحانية مميزة    جامعة طنطا تعلن بدء تلقي طلبات الترشح لجوائز الجامعة للتميز الداخلي    موعد صرف معاشات سبتمبر 2025.. اعرف الجدول والأماكن    بين المزايا والتحديات.. كل ما تريد معرفته عن السيارات الكهربائية    مصادر عبرية: الجيش لا يزال يدرس آلية تطبيق قرار احتلال غزة    زلزال بقوة 6.1 درجة يهز تركيا    الزمالك يتعاقد مع كاترين أرينجو لتدعيم فريق سيدات كرة القدم    لعنة النهائيات تطارد محمد صلاح بعد خسارة ليفربول أمام كريستال بالاس بدرع المجتمع    كريستيانو رونالدو يقود تشكيل النصر ضد ألميريا    متخصص بقضايا المحكمة الاقتصادية: "البلوجرز" واجهة لعصابات غسيل أموال دولية    التضامن الاجتماعي تنفذ 6 قوافل طبية توعوية لخدمة سكان مشروعات السكن البديل    68 غرزة فى وجه الأشقاء.. مشاجرة عنيفة وتمزيق جسد ثلاثة بالبساتين    بالصور.. جلسة تصوير جريئة ل هنا الزاهد في شارع الشانزليزيه والجمهور يغازلها    رنا رئيس تنضم ل أبطال فيلم سفاح التجمع بطولة أحمد الفيشاوي    أحمد عبد العزيز يحصد جائزة الإبداع والتميز بمهرجان همسة للآداب والفنون في دورته ال 13    ليست كل المشاعر تُروى بالكلمات.. 5 أبراج يفضلون لغة التواصل الجسدي    "ملف اليوم" يكشف روايات الاحتلال المضللة لتبرئة نفسه من جرائم غزة    تكلفته 50 مليون.. 25 صورة من فرح البلوجر يومي خوري    هل المال الموهوب من الأب في حياته إلى أحد أولاده لا يدخل ضمن الميراث؟.. الإفتاء تُجيب    وزير الصحة يوجه بتسريع الاستجابة لاحتياجات المرضى ومتابعة نظام التقييم الدوري للعاملين    سعر مواد البناء مساء اليوم 10 أغسطس 2025    وظائف خالية اليوم الأربعاء.. فرص عمل بمختلف المحافظات    حجز متهم بإتلاف سيارة لتشاجره مع مالكها بالبساتين    المشدد 15 سنة لعاملين و3 سنوات لسائق سرقوا هاتفا تحت تهديد السلاح ببنها    أين هم الآن «معتصمو رابعة والنهضة» ؟    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    أمين الفتوى يوضح حكم الزواج عبر الهاتف: لا ينعقد بدون الأركان الشرعية    الوطنية للصحافة: صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش خلال يوليو غدا    من يفوز بالفهد الذهبى ؟    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة 33 للجنة المشتركة المصرية الأردنية    «الصحة» تنظم زيارة لمستشار الرئيس الكولومبي لتفقد منشآت طبية    البورصة تربح 21.3 مليار جنيه في نهاية تعاملات اليوم الأحد    تأجيل محاكمة 29 متهما بالهيكل الإداري للإخوان    بروتوكول تعاون بين البنك الأهلي المصري وشركة "بيرنس كوميونتي"    تسجيل منتجي ومالكي العلامات التجارية حسب «الرقابة على الصادرات والواردات»    بعد توجيه السيسي بحل مشكله معاشات ماسبيرو.. "المسلماني": نشكر الرئيس    محافظ بورسعيد يستقبل الطفلة فرح ويعد بفتح حساب التضامن فى اسرع وقت    شاهد.. لحظة تحرك شاحنات المساعدات من مصر إلى قطاع غزة    إصابة 6 أشخاص بينهم طفلة بإطلاق نار جماعى فى بالتيمور الأمريكية    فلوريان فيرتز يتوّج بجائزة أفضل لاعب ألماني لعام 2025    الإمارات ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا    زلزال بقوة 3.7 ريختر يضرب عاصمة مدغشقر ويثير قلق السلطات    "كيف وأين ولماذا مات؟!".. محمد صلاح يهز عرش الاتحاد الأوروبي بتساؤلات جريئة حول استشهاد بيليه فلسطين.. صحف العالم تحتفي بشجاعة "الفرعون" فى مواجهة يويفا.. و800 شهيد حصيلة جرائم الإبادة الإسرائيلية بحق الرياضيين    تعثر الأهلي أمام مودرن يعيد التساؤلات.. هل يحتاج تدعيمات وريبيرو الأنسب؟    نيابة دمنهور تقرر التصريح بدفن جثة ربة منزل لقيت مصرعها بمنزلها فى ظروف غامضة    التعليم العالى: براءة اختراع جديدة لمعهد تيودور بلهارس فى إنتاج بروتينات علاجية    تحرير 125 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات خلال 24 ساعة    بيلد: النصر يتوصل لاتفاق مع كينجسلي كومان.. وعرض جديد لبايرن    ميكروباص يصدم 9 أشخاص على طريق كورنيش الإسكندرية (صور)    وزير الري: توفير الاحتياجات المائية للمنتفعين بالكميات المطلوبة وفي التوقيتات المناسبة    جيش الاحتلال يعلن اعتقال 70 فلسطينيا في الضفة الغربية    مقتل 6 جنود لبنانيين بانفجار ذخائر أثناء محاولة تفكيكها في جنوب لبنان    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    الهلال السعودي يعلن رسميًا التعاقد مع الأوروجوياني داروين نونيز حتى 2028    نقرير يكشف طلبات باريس سان جيرمان المالية لمغادرة كولو مواني إلى يوفنتوس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مصر.. أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة ومخاوفُ تحيط بالمسار الإنتقالي
نشر في المصريون يوم 16 - 10 - 2011

بعد ثلاثة أيام من ذكرى حرب أكتوبر 73، واجهت مصر، وفي المقدمة، الجيش المصري، محنة كبيرة، إذ تعرّض عدد من أفراده القائمين على تأمين مبنى الإذاعة والتلفزيون في منطقة ماسبيرو بوسط القاهرة، للإعتداء من قِبل متظاهرين شاركوا في مسيرة نظَّمتها إحدى الحركات الشبابية القبطية، التي يرعاها قِس شهير، وترى نفسها معنِية بما تعتبره حقوق الأقباط الضائعة.
ودعت الحركات الشبابية القبطية للقيام بمظاهرات حاشدة في أكثر من كنيسة وفي أكثر من محافظة في ذات الوقت، والتنديد بالإدارة المصرية بمستوياتها المختلفة والتواصل مع منظمات دولية من أجل إدانة الحكومة المصرية واستغلال أية أحداث تمس الأقباط، أيا كان حجمها أو وزنها، لإثارة ما يرونه مطالب قبطية غائبة، ومن ثمّ، توجيه الرسائل الإعلامية والدِّعائية إلى الخارج، بأن الأقباط مضطهدون ويتم التمييز ضدّهم من قبل الأغلبية المسلمة، ومن ثمّ تجوز لهُم الحماية الدولية على أيدي الأمريكيين والأوروبيين ومَن يرغب.
سبب كذوب وتعبئة وتحريض
السبب المباشر والمعلَن لمظاهرة ماسبيرو في التاسع من أكتوبر، لم تختلف كثيرا عن الأسباب المعروفة والمتكرّرة، حيث يُقال أن كنيسة هدمها أو أحرقها مسلمون في مكان ما في أرض مصر، ومن ثم تحدث التعبئة والخروج في المسيرات والمظاهرات التي تطلق الشعارات الغاضبة ضد الجميع، وتطالب بعزل المحافظين والتنديد بوقف بناء الكنائس وما يصفونه بالتطرف الإسلامي.
لكن هذه المرة، كانت الكنيسة مجرّد مشروع على الورق في قرية مريناب الواقعة على بُعد 800 كم من القاهرة جنوبا، حيث أسوان المحافظة السياحية، وهي القرية الهادئة التي يعيش فيها أكثر من 18 ألف مسلم ومعهم خمس مائة قبطي، ولم يُعرف عنها طوال تاريخها أن حدث فيها أي نوع من الإضطهاد للأقباط.
كان الإدِّعاء الذي تحوّل إلى سبب تحريضي هائل، أن المسلمين أحرقوا كنيسة المريناب، وحين أنكر محافظ أسيوط وجود كنيسة وأن الأمر ليس سوى منزل بسيط تقام فيه الصلاة منذ زمن بعيد وتهالك بفعل الزمن، وهو الآن محل إعادة بناء كمضافة تمّ زيادة مساحتها، خلافا للتصريح الرسمي الممنوح لأصحاب الشأن، فإذا بالقِس ذائع الصِّيت يُهدِّد المحافظ ويُكذِّبه ويتوعّده بالويل والثبور وعظائم الأمور، وزاد عليها قس آخر تهديد المحافظ بقتلة شنيعة، حسب ما جاء في إحدى لقطات الفيديو التي أذاعتها وكالات الأنباء ويتداولها الناس على الشبكات الاجتماعية بالإنترنت.
كما زاد القس الشهير نفسه تهديدا مباشرا للمجلس العسكري وقائده الأعلى بأمور لن يتحمّلوها، إن لم يعيدوا بناء الكنيسة فورا، وأن البداية ستكون مسيرة قبطية هائلة لم تعرفها مصر من قبل، ستدخل مبنى الإذاعة والتليفزيون. ويُذكر هنا أن هذه التصريحات كانت في إحدى كنائس شبرا، التي انطلقت منها تلك المسيرة الهائلة، وسجّلها بالصوت والصورة مراسل إحدى القنوات الفضائية الأجنبية.
بالفعل، نظمت المسيرة بطريقة متزامنة مع مسيرات قبطية في أكثر من محافظة، كالإسكندرية التي شهدت تجمّع أكثر من ثلاثة آلاف قبطي أمام القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية، وتجمّعات أخرى أقل عددا في محافظات أسيوط وقنا والأقصر.
سارت المسيرة القبطية في اتجاهين، إحداهما من الغرب والأخرى من الشرق، وتلاقيا أمام مبنى التليفزيون المصري المحاط بوحدة تأمين من الشرطة العسكرية لا يزيد عدد أفرادها عن 300 جندي غيْر مسلحين بأسلحة نارية ويحملون فقط، وفقا لتأكيدات القوات المسلحة، مُعدّات مواجهة الشَّغب، وهي عبارة عن عصا وحاجز بلاستيكي لحماية الصّدر والوجه لكل فرد، ولم يكونوا حاملين أية أسلحة أو ذخائر.
وبعد تظاهرة سِلمية لحوالي ألف قبطي، سادها الهدوء لمدة ساعة تقريبا حتى السادسة مساء، حين وصلت تجمعات هائلة حاملة العصي والأسلحة وقنابل المولوتوف وأسياخ من الحديد وأنابيب البوتاغاز الصغيرة، وحدث هرج شديد وبدأ اعتداء غيْر مسبوق على جنود التأمين بالحِجارة أولا وطلقات الرصاص وعلى مركباتهم العسكرية، وتم حرق المركبات وفيها الجنود الذين مُنِع بعضهم من الخروج منها وهي تحترِق.
وفي الأثناء، نقلت مراسلة قناة العربية الفضائية نقلا حيا قائلة: "إن المتظاهرين الأقباط يعتَدون على الجنود بالأسلحة والعصي ويحرقون المركبات". كما أوضحت اللقطات المصورة من أكثر من جهة، عمليات الاعتداء الجماعي على الجنود بطريقة هيستيرية من قِبل المتظاهرين بالعصىي والصلبان. كما ظهرت مركبتان عسكريتان تحاولان الفِرار من التجمّعات الغاضبة، التي استمرت في إلقاء الحجارة كتل اللَّهب عليها وعلى مَن فيها من الجنود، وفي الخلف، أصوات هائجة ودعوات لمساعدة الجرحى والقتلى الذين وقعوا في مساحة عريضة أمام المبنى، سواء العسكريين أو من المتظاهرين أنفسهم.
كان المشهد مُروِّعا لا تصدِّقه العيْن، رأت جُزءا مُثيرا ومُحزنا منه، ما بين الثامنة إلى التاسعة مساء، عمليات هجوم وكرّ وفَرّ وطلقات رصاص غيْر معروفة المصدر في اتجاه مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأصوات تنادي بالتجمّع على حافة جِسر 6 أكتوبر القريب، وقنابل تُضيء وتشعل ما حولها، وسيارات تنبعث منها رائحة الدخان ورائحة دخان القنابل المُسيِّلة للدموع تُثير الغَثيان.
وما لم يكن قابلا للتصديق، هو أن يتِم الاعتداء على الجنود الذين يحمون تراب الوطن وأهله، بدون تمييز، ويضَحّون من أجل الوطن بقدِّه وقديده، ولكنه وللأسف الشديد حدث، ونتج عنه شهداء من الجنود وشهداء من الأقباط ومصابون لا يقل عددهم عن 300 شخص، ناهيك عن مركبات عسكرية تمّ إحراقها وأخرى لمدنيين لا ذنْب لهم.
كانت الأهرام ليوم 11 أكتوبر الجاري، قد نشرت على لسان أحد الجنود المصابين بجروح قطعية في أكثر من مكان من جسده، أنهم لم يكونوا يحملون أية أسلحة وأن المتظاهرين كانوا يحرِقون السيارات ويمنعون الجنود من الخروج منها أثناء الإحتراق، وأنهم قاموا بقطع تنك البنزين وأشعلوا النار في العربة العسكرية، ولذلك خرجت كل الجُثث متفحِّمة ومات فيها 14 جنديا. بينما أكدت د. بثينة عبد الرؤوف، التي تواجدت في مبنى التليفزيون أثناء الأحداث (انظر بوابة الأهرام الإلكترونية بتاريخ 11 أكتوبر 2011)، أن أوائل القتلى كانوا من الجنود، وأنها أولا رأت جثَّتين، ثم لحق بهما ستة شهداء أخرين لفظوا أنفاسهم في المركز الطبي الموجود بالمبنى.
تفسيرات فضائية بلا معلومات
في تفسير ما حدث، وقبل أن تتجمّع المعلومات الدقيقة، سادت رواية في القنوات الفضائية الخاصة والصحف المستقلة، قِوامها أن القوات المسلحة المصرية أتت فعلا شنيعا، حيث أطلقت الرّصاص على المتظاهرين وهُم المصريون الأصليون، وقتلت منهم الكثير وأصابت العدد الأكثر، وأنها مسؤولة عن ذلك جُملة وتفصيلا، وتطرّف البعض إلى حدّ وصْف ما حدث، بأنه جريمة إبادة جماعية يتطلّب وضع القائمين عليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولم ينس هؤلاء، استدعاء تراث من القصص والروايات، التي تدعم ما يعتبرونه تمييزا وسوءا في إدارة الملف القبطي، كما طالبوا بإقالة محافظ أسوان وطرده من وظيفته العامة. وصرّح سياسيون وقساوسة، بأن ما حدث يستدعي طلب الحماية الدولية فورا وفضح مصر في كل مكان ومعاقبتها.
ولم ينس هؤلاء إدانة القنوات التلفزيونية المصرية، التي كانت تذيع على الهواء مباشرة اعتداءات المتظاهرين على الجنود وحَرق المركبات العسكرية، وطالبوا بإقالة وزير الإعلام ووصفوه كاستمرار لسياسة النظام البائد. ونصح البعض الحكومة كلها بالإستقالة وترْك البلد إلى المصير المجهول.
التشهير بالقوات المسلحة المصرية
كان الأمر أشبَه بعملية تعبِئة شعبية وتشهير إعلامي غيْر مسبوق ضد القوات المسلحة والمجلس الأعلى. كانت التصريحات قاسية والتفسيرات جاهِزة ودم الشهداء لم يبرد بعدُ. وخرج المعلِّقون يقطعون جملة من هنا وعبارة من هناك للتدليل على صِدق رُؤيتهم بأن الجيش المصري خان القضية وباع الوطن وأهدر دم الأقباط عامدا متعمّدا. وجاءت الجنازات للقتلى الأقباط كمناسبة لمزيد من سبّ وشتْم الجيش وقيادته.
والغريب في كل هذه الأجواء، أن أحدا ممَّن تطوّع بالنقد والإدانة والتشهير والتّعبئة ضد مؤسسة الجيش والدولة المصرية، لم يجتهد في جمع المعلومات عمّا حدث بدقّة ولم يُشِر أحد من هؤلاء إلى مسؤولية التحريض والتعبئة التي حدثت في الكنائس القاهرية، والكل ركَّز على ما اعتبره تحليلا سياسيا عاما مرتبطا بتراث النظام البائد، الذي لم تفلح الثورة في التخلص منه، لأن الجيش، من وِجهة نظرهم، يحمي هذا النظام ويحرص عليه.
مَن وراء الشحن والعنف في المسيرة القبطية؟
ولم يحاول أحد أن يستفسِر عن السبب في تحوّل المسيرة، من سِلمية إلى عنيفة بهذه الصورة المخطّطة ومَن وراءها ومَن الذي سلّح بعض المتظاهرين بالعصي والسيوف وغيْر ذلك، ولم يجتهد أحد في التساؤل عن حقيقة ما جرى في قرية مريناب أصلا.
والمفارقة الكبرى، أن يعتبر كثيرون خروج الأقباط في هذه المظاهرة تحديدا، كعلامة فارقة في تاريخ مصر، لأنهم بذلك أكّدوا، من وجهة نظر هؤلاء المحللين، حِرصهم أي الأقباط على المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية الجديدة بعد الثورة. ولم يلتفِت كثيرون إلى أن هذه المظاهرة تحديدا، كانت تُحرِّكها مطالب فِئوية محدّدة ونوازع انتقامية، ولا علاقة لها بالمواطنة لا من قريب ولا من بعيد، وأن شعاراتها كانت دِينية بحْتة، التَقت بها رغبة العُنف وتهديدات يُعاقِب عليها القانون الجنائي.
والأكثر من ذلك، شكَّكت الغالبية من الكتّاب والمعلِّقين، في أن يكون للقوات المسلحة أي ضحايا أو شهداء أو مصابين، وأنكروا على شهداء الجيش استشهادهم في سبيل الوطن، ولم يفكِّر أحد في توجيه التحية لمَن استشهد أو أصيب، بل وأنكروا على المصابين من الجنود أن يتعرّضوا إلى أي أذى، وركّزوا على إدانتهم وسبِّهم والنيل من كرامتهم في تحليلات عابرة وصادمة وغيْر مسبوقة وغيْر أمينة بالمرّة. ولم ينس هؤلاء أن يقدِّموا النعي للثورة المصرية التي لم تأتِ بما يأملونه.
جاءت هذه التحليلات العابرة السيارة المُنفعلة المتَّكِئة على مواقف مُسبقة، بعد ساعات قليلة من صدور نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام، نُشر صبيحة الأحد 9 أكتوبر، وجاء فيه أن 89.7% من المصريين يثِقون في المجلس العسكري وإدارته للمرحلة الانتقالية، ويلي ذلك ثقتهم في القضاء بنسبة 77%.
نظرية الفئة المُندَسّة والطرف الثالث الخفي
وبينما يسود مصر الحُزن العميق والقلق يعُمّ الناس جميعا لا يفرق بين مسلم أو مسيحي، والعيون تنزف دما ودموعا، إذا بالبابا شنودة يقدِّم تفسيرا للعنف والاعتداءات على المتظاهرين وسقوط الضحايا والمصابين، بأنها جاءت من قِبل فئة مندسَّة حوّلت المسيرة السِّلمية إلى عنيفة، دون أن يُشير إلى هوية هذه الفئة أو يحدِّد دينها. وجاءت تصريحات د. محمد سليم العوا أحد المرشحين المحتمَلين لانتخابات الرئاسة المصرية لتؤكِّد امتلاكه أدلّة مُصوَّرة تؤكِّد أن طرفا غيْر المتظاهرين، هو الذى أطلق النار وأحدث الهرج والمرج.
والحق، أن بعض ما جاء في مقولات بعض المتظاهرين، كما في صحيفة الشروق بتاريخ 10 أكتوبر الجاري، أنهم تعرّضوا للإعتداءات من قِبل أطراف كانت تحمل الأسلحة البيضاء قبْل أن يصلوا إلى منطقة ماسبيرو، أما متظاهرون آخرون، حسب الصحيفة نفسها، فقد توعّدوا الجيش وأنه سيرى ما لم يتصور.
نظرية قاصرة واعتراف قنبلة
نظرية الطرف الثالث تنفي المسؤولية عن المتظاهرين الأقباط ،هكذا في غمضة عين، ولكنها أيضا لا تقدم إجابات شافية عن كل الأسئلة التي تحيط بهذه المظاهرة، بدءا من التخطيط لها ونهاية بما أحدثته من مأساة لمصر كلها. والأهم، لا تقدّم تفسيرا لكل هذا الحجم من الإعتداء على الجنود بالحجارة والرّصاص.
وبينما طالب الجميع بتنفيذ القانون ومعاقبة المسؤول عن الجريمة بحقّ المتظاهرين، قرّرت الحكومة تشكيل لجنة واسعة الصلاحيات لتقصي الحقائق برئاسة وزير العدل، والتي بدأت مهمّتها بزيارة إلى القرية التي انطلقت منها إشاعة هدم وحرق الكنيسة. وهنا جاءت المفاجأة الكبرى.
فقد أذاعت قبل يوم من وصول اللجنة، قناة الكرمة، وهي فضائية قبطية ترعاها الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، حديثا قنبلة للأنبا هيدرا، أسقف محافظة أسوان التي تتبعه كنيسة المريناب المفترضة، حيث قال إنه لا توجد كنيسة أصلا في القرية، بل مُصلّى صغير، ولم يحدث أي هجوم أو حرق لكنيسة، لأنها لم توجد أساسا، وأن المبنى نظرا لقِدمه، فقد استطاع الكاهن المسؤول في المصلى، بعلاقاته الطيبة مع الإدارة المحلية، أن يستخرج تصريحا بالإحلال والتجديد باسم كنيسة مارجرجس، التي لم تكن موجودة، وأنه زاد في المساحة المخصصة للبناء، على عكس ما جاء في الترخيص، وأن المسلمين في القرية يساعدون في البناء، ولم يحدُث أن تأذى أحد من المسيحيين في القرية.
جاء الإعتراف لينصِف محافظ أسوان ويحاول إزالة الحرَج عن الكنيسة الأرثوذكسية، حين تأتي اللجنة الحقوقية لترى الحقيقة على الأرض، عكس ما أشيع وترتب عليه ما ترتَب من مأساة وطنية وإنسانية فظيعة، لكن الحرج سيظل قائما. فلما كانت قيادة الكنيسة تعلم بهذه الحقائق الدّامغة، فلماذا لم توقف آلة التحريض داخل كنائس عديدة بزعم حرق كنيسة ليست موجودة؟ ولماذا لم توقف هذه المسيرة التي لا سبب لها أصلا؟ ولماذا لم تفعل ما بوسعها لمنع كل هذا القتل والتخريب الذي حدث؟ ولماذا سمحت بأن تستمِر عمليات التعبئة ضد المسلمين والقوات المسلحة؟ أسئلة عديدة لن يُدركها إلا الضمير الوطني الحيّ.
وربما قال قائل، إن قيادة الكنيسة لم تعُد تهيْمن تماما على قساوسة في منتصف العمر، استمرأوا العمل السياسي بلباس ديني أو أنها تحبِّذ مثل هذه المظاهرات أيا ما يأتي من ورائها. وكلا الإحتمالين خطير.
توضيحات المجلس العسكري
بعد اعتراف الانبا هيدرا، جاءت توضيحات المجلس العسكري في لقاء صحفي موسّع عقد يوم الأربعاء 12 أكتوبر، وخلاصتها أن جنود الجيش المكلفين بتأمين مبنى التليفزيون، لا يحملون أسلحة، وإلا كان الوضع أكثر مأساوية، وأنهم تعرّضوا للاعتداء الغيْر مبرّر وبأشكال عنيفة، وأن الجيش ليس طرفا في مواجهة جزء من الوطن، وأنه لا يستبعد أن يكون هناك طرف ثالث استغلّ المظاهرة وحوّلها إلى معركة، ولكن لا يجزم بذلك، والأمر منوط بجهات التحقيق، وأن جزءا من المتظاهرين كان يحمل أشياء غريبة وأسلحة وعصي، وأن الجيش كان وسيظل جيشا لكل المصريين بدون تفرقة، ولذا سيُواجه بحزم أية أمور مماثلة في المستقبل، ولن يتهاون في مواجهة هؤلاء الذين يطالبون بحماية دولية، وأنه يضع كل ما لديه من حقائق أمام جهات التحقيق القضائية. وأخيرا، أن شهداء الجيش، وتمسُّكا بمبدإ أصيل في العسكرية المصرية، قد تم تشييع جنازاتهم سِرّا، حتى لا يحدُث ما لا يُحمد عُقباه.
ومن سمع العبارة الأخيرة التي تكرّرت مرات عدة، أدرك على الفور أن هناك شهداء كثيرين من الجنود قضوا بالرصاص أو بالحرق في مركباتهم العسكرية أو بالطعن بآلة حادّة أو نتيجة الضرب بالعصي المحملة بالسكاكين والخناجر، ولم يُعلن عن ذلك، لأنه لو جرت جنازات شعبية لهُم، لتحوّلت مصر إلى أتون من العنف الشعبي، وربما حرب أهلية تهلك الزرع والضرع، ولا يبقى مسجدا أو كنيسة. فكان القرار الصائب أن يصمت الجنود في سبيل الوطن.
المصدر: سويس انفو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.