«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مصر.. أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة ومخاوفُ تحيط بالمسار الإنتقالي
نشر في المصريون يوم 16 - 10 - 2011

بعد ثلاثة أيام من ذكرى حرب أكتوبر 73، واجهت مصر، وفي المقدمة، الجيش المصري، محنة كبيرة، إذ تعرّض عدد من أفراده القائمين على تأمين مبنى الإذاعة والتلفزيون في منطقة ماسبيرو بوسط القاهرة، للإعتداء من قِبل متظاهرين شاركوا في مسيرة نظَّمتها إحدى الحركات الشبابية القبطية، التي يرعاها قِس شهير، وترى نفسها معنِية بما تعتبره حقوق الأقباط الضائعة.
ودعت الحركات الشبابية القبطية للقيام بمظاهرات حاشدة في أكثر من كنيسة وفي أكثر من محافظة في ذات الوقت، والتنديد بالإدارة المصرية بمستوياتها المختلفة والتواصل مع منظمات دولية من أجل إدانة الحكومة المصرية واستغلال أية أحداث تمس الأقباط، أيا كان حجمها أو وزنها، لإثارة ما يرونه مطالب قبطية غائبة، ومن ثمّ، توجيه الرسائل الإعلامية والدِّعائية إلى الخارج، بأن الأقباط مضطهدون ويتم التمييز ضدّهم من قبل الأغلبية المسلمة، ومن ثمّ تجوز لهُم الحماية الدولية على أيدي الأمريكيين والأوروبيين ومَن يرغب.
سبب كذوب وتعبئة وتحريض
السبب المباشر والمعلَن لمظاهرة ماسبيرو في التاسع من أكتوبر، لم تختلف كثيرا عن الأسباب المعروفة والمتكرّرة، حيث يُقال أن كنيسة هدمها أو أحرقها مسلمون في مكان ما في أرض مصر، ومن ثم تحدث التعبئة والخروج في المسيرات والمظاهرات التي تطلق الشعارات الغاضبة ضد الجميع، وتطالب بعزل المحافظين والتنديد بوقف بناء الكنائس وما يصفونه بالتطرف الإسلامي.
لكن هذه المرة، كانت الكنيسة مجرّد مشروع على الورق في قرية مريناب الواقعة على بُعد 800 كم من القاهرة جنوبا، حيث أسوان المحافظة السياحية، وهي القرية الهادئة التي يعيش فيها أكثر من 18 ألف مسلم ومعهم خمس مائة قبطي، ولم يُعرف عنها طوال تاريخها أن حدث فيها أي نوع من الإضطهاد للأقباط.
كان الإدِّعاء الذي تحوّل إلى سبب تحريضي هائل، أن المسلمين أحرقوا كنيسة المريناب، وحين أنكر محافظ أسيوط وجود كنيسة وأن الأمر ليس سوى منزل بسيط تقام فيه الصلاة منذ زمن بعيد وتهالك بفعل الزمن، وهو الآن محل إعادة بناء كمضافة تمّ زيادة مساحتها، خلافا للتصريح الرسمي الممنوح لأصحاب الشأن، فإذا بالقِس ذائع الصِّيت يُهدِّد المحافظ ويُكذِّبه ويتوعّده بالويل والثبور وعظائم الأمور، وزاد عليها قس آخر تهديد المحافظ بقتلة شنيعة، حسب ما جاء في إحدى لقطات الفيديو التي أذاعتها وكالات الأنباء ويتداولها الناس على الشبكات الاجتماعية بالإنترنت.
كما زاد القس الشهير نفسه تهديدا مباشرا للمجلس العسكري وقائده الأعلى بأمور لن يتحمّلوها، إن لم يعيدوا بناء الكنيسة فورا، وأن البداية ستكون مسيرة قبطية هائلة لم تعرفها مصر من قبل، ستدخل مبنى الإذاعة والتليفزيون. ويُذكر هنا أن هذه التصريحات كانت في إحدى كنائس شبرا، التي انطلقت منها تلك المسيرة الهائلة، وسجّلها بالصوت والصورة مراسل إحدى القنوات الفضائية الأجنبية.
بالفعل، نظمت المسيرة بطريقة متزامنة مع مسيرات قبطية في أكثر من محافظة، كالإسكندرية التي شهدت تجمّع أكثر من ثلاثة آلاف قبطي أمام القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية، وتجمّعات أخرى أقل عددا في محافظات أسيوط وقنا والأقصر.
سارت المسيرة القبطية في اتجاهين، إحداهما من الغرب والأخرى من الشرق، وتلاقيا أمام مبنى التليفزيون المصري المحاط بوحدة تأمين من الشرطة العسكرية لا يزيد عدد أفرادها عن 300 جندي غيْر مسلحين بأسلحة نارية ويحملون فقط، وفقا لتأكيدات القوات المسلحة، مُعدّات مواجهة الشَّغب، وهي عبارة عن عصا وحاجز بلاستيكي لحماية الصّدر والوجه لكل فرد، ولم يكونوا حاملين أية أسلحة أو ذخائر.
وبعد تظاهرة سِلمية لحوالي ألف قبطي، سادها الهدوء لمدة ساعة تقريبا حتى السادسة مساء، حين وصلت تجمعات هائلة حاملة العصي والأسلحة وقنابل المولوتوف وأسياخ من الحديد وأنابيب البوتاغاز الصغيرة، وحدث هرج شديد وبدأ اعتداء غيْر مسبوق على جنود التأمين بالحِجارة أولا وطلقات الرصاص وعلى مركباتهم العسكرية، وتم حرق المركبات وفيها الجنود الذين مُنِع بعضهم من الخروج منها وهي تحترِق.
وفي الأثناء، نقلت مراسلة قناة العربية الفضائية نقلا حيا قائلة: "إن المتظاهرين الأقباط يعتَدون على الجنود بالأسلحة والعصي ويحرقون المركبات". كما أوضحت اللقطات المصورة من أكثر من جهة، عمليات الاعتداء الجماعي على الجنود بطريقة هيستيرية من قِبل المتظاهرين بالعصىي والصلبان. كما ظهرت مركبتان عسكريتان تحاولان الفِرار من التجمّعات الغاضبة، التي استمرت في إلقاء الحجارة كتل اللَّهب عليها وعلى مَن فيها من الجنود، وفي الخلف، أصوات هائجة ودعوات لمساعدة الجرحى والقتلى الذين وقعوا في مساحة عريضة أمام المبنى، سواء العسكريين أو من المتظاهرين أنفسهم.
كان المشهد مُروِّعا لا تصدِّقه العيْن، رأت جُزءا مُثيرا ومُحزنا منه، ما بين الثامنة إلى التاسعة مساء، عمليات هجوم وكرّ وفَرّ وطلقات رصاص غيْر معروفة المصدر في اتجاه مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأصوات تنادي بالتجمّع على حافة جِسر 6 أكتوبر القريب، وقنابل تُضيء وتشعل ما حولها، وسيارات تنبعث منها رائحة الدخان ورائحة دخان القنابل المُسيِّلة للدموع تُثير الغَثيان.
وما لم يكن قابلا للتصديق، هو أن يتِم الاعتداء على الجنود الذين يحمون تراب الوطن وأهله، بدون تمييز، ويضَحّون من أجل الوطن بقدِّه وقديده، ولكنه وللأسف الشديد حدث، ونتج عنه شهداء من الجنود وشهداء من الأقباط ومصابون لا يقل عددهم عن 300 شخص، ناهيك عن مركبات عسكرية تمّ إحراقها وأخرى لمدنيين لا ذنْب لهم.
كانت الأهرام ليوم 11 أكتوبر الجاري، قد نشرت على لسان أحد الجنود المصابين بجروح قطعية في أكثر من مكان من جسده، أنهم لم يكونوا يحملون أية أسلحة وأن المتظاهرين كانوا يحرِقون السيارات ويمنعون الجنود من الخروج منها أثناء الإحتراق، وأنهم قاموا بقطع تنك البنزين وأشعلوا النار في العربة العسكرية، ولذلك خرجت كل الجُثث متفحِّمة ومات فيها 14 جنديا. بينما أكدت د. بثينة عبد الرؤوف، التي تواجدت في مبنى التليفزيون أثناء الأحداث (انظر بوابة الأهرام الإلكترونية بتاريخ 11 أكتوبر 2011)، أن أوائل القتلى كانوا من الجنود، وأنها أولا رأت جثَّتين، ثم لحق بهما ستة شهداء أخرين لفظوا أنفاسهم في المركز الطبي الموجود بالمبنى.
تفسيرات فضائية بلا معلومات
في تفسير ما حدث، وقبل أن تتجمّع المعلومات الدقيقة، سادت رواية في القنوات الفضائية الخاصة والصحف المستقلة، قِوامها أن القوات المسلحة المصرية أتت فعلا شنيعا، حيث أطلقت الرّصاص على المتظاهرين وهُم المصريون الأصليون، وقتلت منهم الكثير وأصابت العدد الأكثر، وأنها مسؤولة عن ذلك جُملة وتفصيلا، وتطرّف البعض إلى حدّ وصْف ما حدث، بأنه جريمة إبادة جماعية يتطلّب وضع القائمين عليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولم ينس هؤلاء، استدعاء تراث من القصص والروايات، التي تدعم ما يعتبرونه تمييزا وسوءا في إدارة الملف القبطي، كما طالبوا بإقالة محافظ أسوان وطرده من وظيفته العامة. وصرّح سياسيون وقساوسة، بأن ما حدث يستدعي طلب الحماية الدولية فورا وفضح مصر في كل مكان ومعاقبتها.
ولم ينس هؤلاء إدانة القنوات التلفزيونية المصرية، التي كانت تذيع على الهواء مباشرة اعتداءات المتظاهرين على الجنود وحَرق المركبات العسكرية، وطالبوا بإقالة وزير الإعلام ووصفوه كاستمرار لسياسة النظام البائد. ونصح البعض الحكومة كلها بالإستقالة وترْك البلد إلى المصير المجهول.
التشهير بالقوات المسلحة المصرية
كان الأمر أشبَه بعملية تعبِئة شعبية وتشهير إعلامي غيْر مسبوق ضد القوات المسلحة والمجلس الأعلى. كانت التصريحات قاسية والتفسيرات جاهِزة ودم الشهداء لم يبرد بعدُ. وخرج المعلِّقون يقطعون جملة من هنا وعبارة من هناك للتدليل على صِدق رُؤيتهم بأن الجيش المصري خان القضية وباع الوطن وأهدر دم الأقباط عامدا متعمّدا. وجاءت الجنازات للقتلى الأقباط كمناسبة لمزيد من سبّ وشتْم الجيش وقيادته.
والغريب في كل هذه الأجواء، أن أحدا ممَّن تطوّع بالنقد والإدانة والتشهير والتّعبئة ضد مؤسسة الجيش والدولة المصرية، لم يجتهد في جمع المعلومات عمّا حدث بدقّة ولم يُشِر أحد من هؤلاء إلى مسؤولية التحريض والتعبئة التي حدثت في الكنائس القاهرية، والكل ركَّز على ما اعتبره تحليلا سياسيا عاما مرتبطا بتراث النظام البائد، الذي لم تفلح الثورة في التخلص منه، لأن الجيش، من وِجهة نظرهم، يحمي هذا النظام ويحرص عليه.
مَن وراء الشحن والعنف في المسيرة القبطية؟
ولم يحاول أحد أن يستفسِر عن السبب في تحوّل المسيرة، من سِلمية إلى عنيفة بهذه الصورة المخطّطة ومَن وراءها ومَن الذي سلّح بعض المتظاهرين بالعصي والسيوف وغيْر ذلك، ولم يجتهد أحد في التساؤل عن حقيقة ما جرى في قرية مريناب أصلا.
والمفارقة الكبرى، أن يعتبر كثيرون خروج الأقباط في هذه المظاهرة تحديدا، كعلامة فارقة في تاريخ مصر، لأنهم بذلك أكّدوا، من وجهة نظر هؤلاء المحللين، حِرصهم أي الأقباط على المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية الجديدة بعد الثورة. ولم يلتفِت كثيرون إلى أن هذه المظاهرة تحديدا، كانت تُحرِّكها مطالب فِئوية محدّدة ونوازع انتقامية، ولا علاقة لها بالمواطنة لا من قريب ولا من بعيد، وأن شعاراتها كانت دِينية بحْتة، التَقت بها رغبة العُنف وتهديدات يُعاقِب عليها القانون الجنائي.
والأكثر من ذلك، شكَّكت الغالبية من الكتّاب والمعلِّقين، في أن يكون للقوات المسلحة أي ضحايا أو شهداء أو مصابين، وأنكروا على شهداء الجيش استشهادهم في سبيل الوطن، ولم يفكِّر أحد في توجيه التحية لمَن استشهد أو أصيب، بل وأنكروا على المصابين من الجنود أن يتعرّضوا إلى أي أذى، وركّزوا على إدانتهم وسبِّهم والنيل من كرامتهم في تحليلات عابرة وصادمة وغيْر مسبوقة وغيْر أمينة بالمرّة. ولم ينس هؤلاء أن يقدِّموا النعي للثورة المصرية التي لم تأتِ بما يأملونه.
جاءت هذه التحليلات العابرة السيارة المُنفعلة المتَّكِئة على مواقف مُسبقة، بعد ساعات قليلة من صدور نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام، نُشر صبيحة الأحد 9 أكتوبر، وجاء فيه أن 89.7% من المصريين يثِقون في المجلس العسكري وإدارته للمرحلة الانتقالية، ويلي ذلك ثقتهم في القضاء بنسبة 77%.
نظرية الفئة المُندَسّة والطرف الثالث الخفي
وبينما يسود مصر الحُزن العميق والقلق يعُمّ الناس جميعا لا يفرق بين مسلم أو مسيحي، والعيون تنزف دما ودموعا، إذا بالبابا شنودة يقدِّم تفسيرا للعنف والاعتداءات على المتظاهرين وسقوط الضحايا والمصابين، بأنها جاءت من قِبل فئة مندسَّة حوّلت المسيرة السِّلمية إلى عنيفة، دون أن يُشير إلى هوية هذه الفئة أو يحدِّد دينها. وجاءت تصريحات د. محمد سليم العوا أحد المرشحين المحتمَلين لانتخابات الرئاسة المصرية لتؤكِّد امتلاكه أدلّة مُصوَّرة تؤكِّد أن طرفا غيْر المتظاهرين، هو الذى أطلق النار وأحدث الهرج والمرج.
والحق، أن بعض ما جاء في مقولات بعض المتظاهرين، كما في صحيفة الشروق بتاريخ 10 أكتوبر الجاري، أنهم تعرّضوا للإعتداءات من قِبل أطراف كانت تحمل الأسلحة البيضاء قبْل أن يصلوا إلى منطقة ماسبيرو، أما متظاهرون آخرون، حسب الصحيفة نفسها، فقد توعّدوا الجيش وأنه سيرى ما لم يتصور.
نظرية قاصرة واعتراف قنبلة
نظرية الطرف الثالث تنفي المسؤولية عن المتظاهرين الأقباط ،هكذا في غمضة عين، ولكنها أيضا لا تقدم إجابات شافية عن كل الأسئلة التي تحيط بهذه المظاهرة، بدءا من التخطيط لها ونهاية بما أحدثته من مأساة لمصر كلها. والأهم، لا تقدّم تفسيرا لكل هذا الحجم من الإعتداء على الجنود بالحجارة والرّصاص.
وبينما طالب الجميع بتنفيذ القانون ومعاقبة المسؤول عن الجريمة بحقّ المتظاهرين، قرّرت الحكومة تشكيل لجنة واسعة الصلاحيات لتقصي الحقائق برئاسة وزير العدل، والتي بدأت مهمّتها بزيارة إلى القرية التي انطلقت منها إشاعة هدم وحرق الكنيسة. وهنا جاءت المفاجأة الكبرى.
فقد أذاعت قبل يوم من وصول اللجنة، قناة الكرمة، وهي فضائية قبطية ترعاها الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، حديثا قنبلة للأنبا هيدرا، أسقف محافظة أسوان التي تتبعه كنيسة المريناب المفترضة، حيث قال إنه لا توجد كنيسة أصلا في القرية، بل مُصلّى صغير، ولم يحدث أي هجوم أو حرق لكنيسة، لأنها لم توجد أساسا، وأن المبنى نظرا لقِدمه، فقد استطاع الكاهن المسؤول في المصلى، بعلاقاته الطيبة مع الإدارة المحلية، أن يستخرج تصريحا بالإحلال والتجديد باسم كنيسة مارجرجس، التي لم تكن موجودة، وأنه زاد في المساحة المخصصة للبناء، على عكس ما جاء في الترخيص، وأن المسلمين في القرية يساعدون في البناء، ولم يحدُث أن تأذى أحد من المسيحيين في القرية.
جاء الإعتراف لينصِف محافظ أسوان ويحاول إزالة الحرَج عن الكنيسة الأرثوذكسية، حين تأتي اللجنة الحقوقية لترى الحقيقة على الأرض، عكس ما أشيع وترتب عليه ما ترتَب من مأساة وطنية وإنسانية فظيعة، لكن الحرج سيظل قائما. فلما كانت قيادة الكنيسة تعلم بهذه الحقائق الدّامغة، فلماذا لم توقف آلة التحريض داخل كنائس عديدة بزعم حرق كنيسة ليست موجودة؟ ولماذا لم توقف هذه المسيرة التي لا سبب لها أصلا؟ ولماذا لم تفعل ما بوسعها لمنع كل هذا القتل والتخريب الذي حدث؟ ولماذا سمحت بأن تستمِر عمليات التعبئة ضد المسلمين والقوات المسلحة؟ أسئلة عديدة لن يُدركها إلا الضمير الوطني الحيّ.
وربما قال قائل، إن قيادة الكنيسة لم تعُد تهيْمن تماما على قساوسة في منتصف العمر، استمرأوا العمل السياسي بلباس ديني أو أنها تحبِّذ مثل هذه المظاهرات أيا ما يأتي من ورائها. وكلا الإحتمالين خطير.
توضيحات المجلس العسكري
بعد اعتراف الانبا هيدرا، جاءت توضيحات المجلس العسكري في لقاء صحفي موسّع عقد يوم الأربعاء 12 أكتوبر، وخلاصتها أن جنود الجيش المكلفين بتأمين مبنى التليفزيون، لا يحملون أسلحة، وإلا كان الوضع أكثر مأساوية، وأنهم تعرّضوا للاعتداء الغيْر مبرّر وبأشكال عنيفة، وأن الجيش ليس طرفا في مواجهة جزء من الوطن، وأنه لا يستبعد أن يكون هناك طرف ثالث استغلّ المظاهرة وحوّلها إلى معركة، ولكن لا يجزم بذلك، والأمر منوط بجهات التحقيق، وأن جزءا من المتظاهرين كان يحمل أشياء غريبة وأسلحة وعصي، وأن الجيش كان وسيظل جيشا لكل المصريين بدون تفرقة، ولذا سيُواجه بحزم أية أمور مماثلة في المستقبل، ولن يتهاون في مواجهة هؤلاء الذين يطالبون بحماية دولية، وأنه يضع كل ما لديه من حقائق أمام جهات التحقيق القضائية. وأخيرا، أن شهداء الجيش، وتمسُّكا بمبدإ أصيل في العسكرية المصرية، قد تم تشييع جنازاتهم سِرّا، حتى لا يحدُث ما لا يُحمد عُقباه.
ومن سمع العبارة الأخيرة التي تكرّرت مرات عدة، أدرك على الفور أن هناك شهداء كثيرين من الجنود قضوا بالرصاص أو بالحرق في مركباتهم العسكرية أو بالطعن بآلة حادّة أو نتيجة الضرب بالعصي المحملة بالسكاكين والخناجر، ولم يُعلن عن ذلك، لأنه لو جرت جنازات شعبية لهُم، لتحوّلت مصر إلى أتون من العنف الشعبي، وربما حرب أهلية تهلك الزرع والضرع، ولا يبقى مسجدا أو كنيسة. فكان القرار الصائب أن يصمت الجنود في سبيل الوطن.
المصدر: سويس انفو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.