التوقيع على اتفاق مبدئي جرى بنهاية مارس الماضي بين ايران والدول الست الكبرى، والذي شمل المبادئ الرئيسية للبرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، أظهر الاستعداد للتوقيع على اتفاق نهائي يشمل التفاصيل ومراحل التنفيذ قبل نهاية يونيو المقبل، لكنه يبرز مشكله معقدة عن حاله عدم اليقين وفقدان الثقة بين الجانبين ومخاوفهما من المماطلة في التنفيذ وانتهاك نصوص البنود التي تم الاتفاق عليها. وقد عكست أجواء الجانبين ومواقفهما هذا الواقع، عندما حذر الرئيس الاميركي باراك اوباما ايران من "الغش" وعدم الالتزام بالقيود على برنامجها النووي، ورد عليه الرئيس الايراني حسن روحاني قائلاً: نحن لا نغش، ولسنا منافقين واذا قطعنا وعداً، فسوف نتحرك طبقاً لهذا الوعد، وبالطبع فان هذا الوعد يعتمد على تحركات الجانب الآخر بناء على وعوده". وإضافة إلى اشادته بالاتفاق الإطاري النووي والذي وصفه بأنه "تاريخي"، أكد روحاني أن ايران ستحترم هذا الاتفاق بشرط أن تنفذ القوى العالمية الشق الخاص بها، وقال "إن مباحثاتنا ليست نووية فقط"، مشيراً إلى الأمن الإقليمي والعالمي كمستفيد محتمل من الاتفاق الذي أنهى العزلة الدولية الطويلة لإيران بسبب العقوبات التي فرضت على برنامجها النووي. ولكن الرئيس روحاني لم يرد على الرئيس أوباما عندما أكد في مكالمة هاتفيه مع سلطان عمان قابوس بن سعيد على "وعد بالعمل مع شركاء إقليميين لمواجهة النشاطات الإيرانية المزعزعة للاستقرار في المنطقة"، ومؤيداً بذلك اتهاماً وجهته دول عربية عدة إلى ايران "بتأجيج النزاعات في المنطقة، وبالسعي إلى توسيع رقعة نفوذها عبر حلفائها المحليين في سورياوالعراق ولبنان واليمن". ويأتي التحذير الاميركي لإيران، في الوقت الذي بدأ فيه الاستعداد لعقد قمة في منتجع كامبديفيد تجمع الرئيس أوباما مع قادة دول الخليج العربية للبحث في تعزيز التعاون ومحاولة حل النزاعات القائمة في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تؤكد فيه إيران أنها تتطلع إلى رفع فوري وكامل ونهائي للعقوبات الدولية لكي تسجل انتعاشاً لاقتصادها المنهار بالعودة إلى التعامل بشكل طبيعي مع المجتمع الدولي، يلاحظ أن الرئيس روحاني قد أشاد بالتقدم التكنولوجي الذي احرزته إيران رغم العقوبات الدولية. الورقة الاقتصادية مع الاخذ بالاعتبار، التركيز على المكاسب والخسائر الاستراتيجية المحتملة للاتفاق النووي في حال توقيعه في يونيو/حزيران المقبل، يبدو أن الجانب الاقتصادي هو الورقة الرابحة التي دفعت الولاياتالمتحدة إلى وضع ثقلها لإنجاز هذا الاتفاق، ودفعت ايران إلى "التضحية" بالإنجاز النووي، واذا كانت المكاسب الاستراتيجية للطرفين المتفاوضين ليست واضحة تماماً على أساس أن البعض يعتبر أن الاتفاق يتضمن تفاهمات سريه غير معلنه على النفوذ، فإن المكاسب الاقتصادية واضحة تقريباً وهي مغريه وفق المعايير. ولوحظ أن النظام الايراني، لم يتوانى طوال عدة سنوات ماضيه ولا يزال، عن التفاخر بتراجع تأثير العقوبات على الايرانيين وصمودهم، مدعياً أنها تحثهم على التحدي والابداع للتغلب عليها وتوفير كافة احتياجاتهم ذاتياً، كما خولتهم تحقيق قفزات تكنولوجية كبيرة، تجلت أبرز ملاحمها في تطوير برنامجهم النووي، فضلاً عن تصنيع أسلحة جديدة ومتطورة من طائرات إلى غواصات وصواريخ متوسطة وطويلة المدى، حتى إن مناوراتها العسكرية المتتالية لم تتوقف، وهي بمثابة رسائل سياسية توجهها إلى الأعداء، وتؤكد خلالها صدقية استراتيجيتها الردعية وجاهزيتها العسكرية للتصدي لأي تهديد محتمل. وإضافة إلى ذلك، انزلق النظام الايراني إلى ارهاق كاهل اقتصاده بسياسات استعراضيه مستفزه لجهة تقديمات ماليه وعسكرية لدول وجماعات وحكومات وأحزاب سياسية وتنظيمات مسلحه ومليشيات شبه عسكرية في العراقوسوريا ولبنان وفلسطين واليمن وتركيا وافغانستان، وذلك لخدمة استراتيجيتها في توسيع نفوذها في المنطقة. وفي المقابل، لم يتوانى الكونغرس الأمريكي والدول الغربية في مطالبة مجلس الأمن والمجتمع الدوليين بفرض مزيد من العقوبات على ايران، ووضع آلية صارمة لمراقبه تطبيق تلك العقوبات بكل دقة وحزم، في وقت بدأت فيه وسائل ايران للتحايل على العقوبات في الانسداد تدريجياً لاعتبارات عدة، أهمها اجراءات لتشديد هذه العقوبات وضمان تنفيذها، إضافة إلى اضطراب البيئة الإقليمية المحيطة بطهران على خلفية الثورات العربية والحرب على "داعش". ومع نجاح العقوبات في تحقيق هدفها، أثبتت الولاياتالمتحدة ومعها المجتمع الدولي أن الحرب العالمية الثالثة لم تعد من طبيعة عسكرية، بل اقتصادية بامتياز، حيث دفعت العقوبات ايران مرغمة إلى التسليم بشروط المجتمع الدولي ومعاييره النووية، لأنه خلاف ذلك كان من شأنه أن يهدد النظام الإيراني برمته. لا شك في أن تأثير العقوبات على الاقتصاد الايراني قد تعاظم بعدما طالت قطاع الطاقة الذي يمثل عاموده الفقري، أثر صدور القرار الأممي رقم 1929 في يونيو/ حزيران 2012، ثم توقيع الرئيس الاميركي قانوناً يقضي بتشديد العقوبات على القطاع المالي الايراني من خلال تجميد أرصدة أي مؤسسة مالية أجنبية تقوم بتبادل تجاري مع المصرف المركزي الايراني، إضافة إلى تجميد الأصول الإيرانية في الولاياتالمتحدة، وبذلك حرمت من عائدات ماليه تقدر ب 100 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 80 في المئة من العملة الصعبة التي كانت تحصل عليها خامس أكبر دولة مصدرة للنفط على مستوى العالم، فضلاً عن صفقات عدة في مجال الطاقة بين ايران ودول أخرى بما قيمته 60 مليار دولار بعدما حالت العقوبات دون تنفيذها، خصوصاً مشروع "باريس" مع باكستان والهند. وتتطلع إيران إلى أن يؤدي رفع العقوبات إلى الافراج فوراً عن 100 مليار دولار قيمة عائدات نفطيه عالقة في الخارج، ولكن هل سيتم ذلك فوراً بعد توقيع الاتفاق النهائي المرتقب في نهاية يونيو المقبل؟ الجواب يلفه غموض كبير، ففي حين يؤكد وزير خارجية ايران محمد جواد ظريف أن العقوبات سترفع كلياً فور تنفيذ الاتفاق، بقول الرئيس اوباما أن ذلك سيحصل فور التأكد من تنفيذ ايران التزاماتها، على أن تفرض مجدداً في حال لم تطبق الالتزامات المطلوبة منها، وستقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة الخطوات التنفيذية والتي قد تمتد من سنة إلى 15 سنة أو أكثر، وهو وقت طويل ترفضه ايران، وفي حال توصلت الوكالة إلى قرار بعدم الامتثال الإيراني، سوف يتعين عليها رفع الشكاوي إلى مجلس الأمن للفصل فيها، وفي نفس الوقت يتعين على الولاياتالمتحدة محاولة إقناع الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية بأنه قد جرى انتهاك للاتفاق المبرم، ويتحتم بذلك اتخاذ الاجراءات الفعالة ضد ايران، وقد يضيع الوقت في الجدال والنقاش حول مختلف وجهات النظر المتباينة، مع انتظار كثير من النتائج المحتملة. القدرة المالية كشف تقرير لمعهد التمويل الدولي أن الناتج المحلي الايراني قد انخفض من 514 مليار دولار في السنة المالية 2011 – 2012 ، إلى 342 مليار دولار في السنة المالية 2013 2014 ، ما يعني خسائر بلغت 57 مليار دولار، وقد سجل في السنة المالية 2014 – 2015 تراجعاً كبيراً بسبب العقوبات وتراجع أسعار النفط من 115 دولاراً للبرميل إلى أقل من 55 دولار، مع انتاج ضئيل للتصدير لا يزيد عن 1.2 مليون برميل يومياً. وعندما وضعت ايران موازنتها للسنة المالية 2015 – 2016 اعتمدت سعراً لبرميل النفط في حدود 72 دولار، ولكنها اضطرت مؤخراً إلى خفضه إلى 42 دولار، واللافت في الأمر زيادة مخصصات الحرس الثوري الذي يحمي النظام من الداخل ويشكل رأس حربه في الخارج، وينص مشروع الموازنة على زيادة الانفاق العسكري بنسبة 33 في المئة إلى عشرة مليارات دولار، رغم أن الرقم الحقيقي أعلى بكثير، لأن هناك مبالغ لا تظهر في أبواب الموازنة، بل تبقى محفوظه في أدراج مكتب المرشد الاعلى آية الله على خامنئي، ولم يظهر في كل المؤشرات المالية أي تراجع عن تسليح الحركات الموالية لإيران في الشرق الأوسط ويعود الإصرار الإيراني على مواصلة تقديم الدعم إلى أسباب عدة أهمها: 1 تنظر إيران إلى التكلفة البشرية والاقتصادية لوجودها العسكري الخارجي بوصفه ضرورة لا بد منها لضمان امنها القومي . 2 – تراهن ايران على هذا الوجود كخطوة في سبيل تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتأثير على ميزان القوى بما يصب في صالح دورها الاقليمي، وتحسين وضعها التفاوضي مع الغرب. وحسب رأي المسؤولين الأميركيين، فان الاتفاق النووي ينص على ان العقوبات لن ترفع حتى يتم التأكد من التزام ايران بتنفيذ البنود المتعلقة بالجانب النووي، وهو أمر يتطلب على الأقل ستة أشهر بعد موعد تنفيذ الاتفاق، ما يعني أن العقوبات قد تستمر إلى آواخر العام الحالي، أو مطلع العام المقبل، وبالتالي فان الاقتصاد الإيراني سيستمر في أزمته المالية. وتراهن الأسواق النفطية العالمية على زيادة الصادرات الايرانية بين 200 ألف و600 ألف برميل يومياً في غضون ستة اشهر من بدء تخفيف العقوبات، لكن التعافي التام للإنتاج مستبعد قبل النصف الثاني من العام 2016، بسبب الحاجة إلى ضخ استثمارات جديدة لتحديث الحقول، وعلى الرغم من استعداد بعض المشترين لزيادة مشترياتهم قبل توقيع الاتفاق النهائي في يونيو المقبل، رهاناً منهم على استبعاد معاقبة واشنطن والدول الأوروبية لهم بسبب انتهاك عقوبات على طريق الالغاء، فان الولاياتالمتحدة تستبعد أن تتحقق بسرعة اتفاقات كبرى في مجال الطاقة والطيران والتكنولوجيا والسيارات، بين شركات أمريكية وإيران، لأن رفع العقوبات يحتاج موافقات من الكونغرس، ولهذا السبب ربما تسبق الشركات الاوروبية نظيرتها الأميركية إلى عقد الصفقات مع ايران، بعدما تتجاوز حالة عدم اليقين حيال الممارسة الإيرانية. وتبقى الإشارة إلى أن معهد التمويل الدولي يستبعد أن يستعيد الاقتصاد الايراني عافيته قبل منتصف العام 2017، أي بعد مرور سنتين على توقيع الاتفاق، شرط أن يستمر تنفيذه بثقة متبادلة بين إيران والدول الست الكبرى، ومن دون انتهاكات للبنود المتفق عليها. ومع استمرار المخاوف من أن تستخدم إيران رفع العقوبات في تعزيز قدرات ميليشياتها المنتشرة في بلدان عربية، فإنه لا بد من الإشارة إلى الفارق الكبير بين مرحلة ما قبل التوقيع على الاتفاق النووي وبعده، ففي المرحلة الأولى كانت إيران تسعى لمد نفوذها بأدواتها الذاتية من أجل تحسين شروط مواجهتها وتعزيز أوراقها، أما في مرحلة ما بعد التوقيع فهي ستسعى لانتزاع إقرار بدورها ونفوذها من المجتمع الدولي وخصوصاً من الولاياتالمتحدة، وليس بواسطة قوتها الذاتية، مع العلم أن إيران الثورة التي قامت في العام 1979 قد تنتهي في العام 2015، تمهيداَ لعودتها التدريجية إلى دولة طبيعية، ولا يمكن في هذا المجال التقليل من أهمية التحالف العربي السني الذي أدخل المنطقة في توازن استراتيجي لتحقيق الهدف المنشود في توفير الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي.