عظيم أنت يا سيدي وواسع الأفق، وشديد التعقل واسع الحكمة، إذا مدحتني وقلت إنني رجل كامل الأوصاف، عظيم السجايا والمزايا والخصال. ورديء أنت ومتجنّ وحقود - يا سيدي - إذا ذممتني وأشرت - ولو تلميحًا - إلى أنني مقصر، أو متهاون، أو عجول. عظيم أنت، ومنصف وواقعي إذا جاملتني، ونفخت في سَحْري، وجعلتني أعدو طوري، وأعنت شيطاني عليّ، وأقنعتني أنني معصوم لا أخطئ، ولا يمكن أن يرد ببالي الخطأ. وسيئ أنت إذا أشرت إلى ضعفي البشري، وأنني من أبناء آدم الخطائين، وأن الخطأ ليس عارًا ولا عيبًا ولا مذمة. عظيم أنت إذا مدحتني، وأهلي، وانتمائي، وجماعتي، وشيخي، وقبيح إذا انتقدت حتى لون سيارتي، أو تكسّر ثيابي، أو.. فضلاً عن فكري، ومنهجي، واتجاهي! رائع أنت إذا مدحت طريقتي في التدين، وفي الاتباع، وسيئ أنت، ورذل؛ إذا قلت إن جماعتي ليست هي وحدها الضامنة للجنة، وأن شيخي قابل للسهو والخطأ والغفلة والهوى، فهو - طبعًا - مثلي معصوم معصوم معصوم يا ولدي. أنا يا سيدي رجل غير عادي، ولهذا فإنني غير قابل للنقد، ولا اللوم، ولا لفت النظر. تعرف لماذا؛ واكتمها عني!؟ ما تقولش لحد بليز: لأنني ضعيف أسكن بيتًا من زجاج، وأبني واقعًا من ثلج.. لأنني مكشوف مهتز؛ لذا أبالغ في رد الفعل، كنوع من أنواع الحماية، وصيانة الذات. ألا ترى إلى واقع الرخويات والكائنات الدنيا؟! إنها تبالغ في التخفي، في الجحور، والاستتار، والتمويه في ألف ثوب وثوب.. لأنها ضعيفة.. هشة.. مكشوفة. إنه مرض يا سيدي، وبائي واسع الانتشار، يحول بين الإنسان والإجادة، والقفز بعمله وطموحاته قفزات عالية، ويحول بينه وبين تصحيح أخطائه، وتعديل مساره، وهو مرض برأ اللهُ منه الموفقين وأهل الرشاد: الصديق أبو بكر رضي الله عنه يرد على قائل له: اتق الله، بالشكر والثناء. ويقول له: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها. والفاروق الملهم كان يستدعي النقد قائلاً: رحم الله رجلاً أهدى إليّ عيوبي! وحين قال له أحد الجفاة: لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، رد الفاروق العظيم عليه قائلًا: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوّم ابن الخطاب بسيفه. وكثير من أئمة الإسلام العظماء كانوا يفرحون إذا خالفهم تلاميذهم الأقربون، وخرجوا بآراء تخالف آراء شيوخهم الذين علموهم - في المسألة الواحدة - ففي الفقه الحنفي تجد رأي الإمام الأعظم، وبجانبه رأي تلاميذه أبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وحماد ابن أبي حنيفة.. كلهم قد خالفوه، وأثبتوا آراءهم بجانب رأيه، دون توهم التطاول والإساءة. هذا فن ينبغي أن نتقنه، وأن ننشره بيننا، وإلا استمر مسلسل الهزال العقلي، وتفلت أصحاب القدرات والمواهب.. كثير من شباب العمل الإسلامي صاروا مثلاً في ضيق الأفق، وخيبة العقل، يعتقدون أنهم وحدهم أهل الحق والعدل والتوحيد - مثل معتزلة زمان - ويوقنون (لا أدري كيف) بأن الآخرين هلكى، ضائعون لا محالة. وإذا جاءت أحدهم الفتوى من الشيخ فلان، أو صدر رأي من الأخ علان كان بردًا وسلامًا، وإذا جاء الكلام من غيرهما كان (زفتًا وسخامًا) لأن الآخرين - ببساطة - أغبياء، يغلب عليهم ضيق الأفق، والرداءة والخبث والتخلف! كثير من الشعراء والكتّاب كذلك، لا يرضى أحدهم إلا بأن تمجّده، وتسبح بحمده، وتقول إنه (الواد المعلم) وإلا فأنت فاسد! بل يشترون الثناء، ويدفعون مقابل الظهور في برنامج، أو مقابلة صحفية، أو إصدار بيان، والمشاركة في فرقعة! اسأل الفنانين، وكثير من المتشاعرين، والمتثاقفين.. وبعضهم يشتري الجوائز الرنانة، بأثمان منوعة، منها مسح الجزم، ومسح الجوخ، وتأجير قلمه ونفسه لحساب من يملك الجائزة، حتى يقال: الكاتب الكبير، والحائز على الجوائز، ونائل التقديرية، والذهبية، والبتاعية! فإذا نقبت وجدته كومة قش، أو وهمًا، أو طبلة عالية الصوت فارغة الجوف! حتى بعض الكبار كانوا يخافون النقد، ويرتعدون من سطر في جريدة، أو بيت في قصيدة! أحمد شوقي أمير الشعراء كان (يموت في جلده) من النقد، رغم كونه أمير الشعراء.. العميد طه حسين كان يتقي الألسنة بطرق كثيرة. والواثق أجرأ وأكثر استفادة.. سمعت أن الأستاذ العقاد رحمه الله نصح بعض تلاميذه الذين يكرهون النقد فقال: خذ الجرائد التي انتقدتك، وقف عليها، وسترى أنها رفعتك عن الأرض، وجعلتك أعلى من ناقديك: عُداتي لهم فضل عليّ ومنّة......فلا أذهب الله عني الأعاديا همُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها......وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا بعض الفنانين يريد أن تقول - فقط - إن لوحاته أعظم وأبدع ما خلق الله، وإن ريشته من أعاجيب الزمان، وعلى شاكلتهم كتاب، ومفكرون، وشيوخ! يعجبني في الغربيين ما استحدثوه من جلسات التصارح، وتلاقح الأفكار، والثرثرة الإيجابية Chatting Groups. إنهم يجلسون ليتحدث كل منهم عن نفسه بأمانة: نقاط القوة فيه، نقاط الضعف، ما يرجوه لنفسه، ما يكرهه من نفسه! إنهم في كثير من الأحيان واقعيون، يفهمون (الدنيا) بطريقة حسنة، يتقنون أمورها؛ لذلك فإنهم يتكلمون.. يتصارحون.. يناقش أحدهم مديره أو رئيسه في العمل ببساطة، ويتحدث أيضًا عن نفسه ببساطة. هل أقول إن الخوف من النقد، والهروب إلى الترميز في الآداب والفنون الحديثة هو بسبب ضعف كثير من (ممارسي) هذه الفنون والآداب؟! هل يعانون من ضعف لغوي، أو تخلف تقني، أو عجز في الطاقة الإبداعية، فهم يوارون ذلك بالهروب إلى الألغاز والترميز والضبابية والتهويمات الافتعالية الموجودة (فقط) في خيالهم لا في الواقع؟! إن الفن القوي، والأدب العظيم، والعطاء العقلي المميز، كالضوء: كاشف مكشوف، واضح موضح، صائب مصوّب، لذا فإن أصحابه لا يعرفون الجمجمة ولا الالتواء ولا الخوف من اللوم.. وإن النقد القوي نعمة، إذا عرف وأنكر ومدح وقدح، إذا عرف المزايا فأبرزها، وعرف العيوب فنبه إليها. وللإنصاف أقول إن هناك أناسًا ممن يتحدثون عن الإبداع لا يرون إلا العيوب، ولا يفتشون إلا عن النقائص والمثالب. تمامًا - وسامحوني - كالزبالين إذا ساروا في الشارع، فإن عين أحدهم لا ترى إلا الزبالة، والورق المرمي على الأرض، والعلب الفارغة، وقشر الموز.. وغالبًا لن تستوقفهم وردة مزروعة هنا، ولا بقعة أنيقة هناك. أنا يا سيدي محتاج إلى من يعلمني أنني غير معصوم، وأنني خطاء، وأنني لست كاملاً بل ناشد كمال، ليس عطائي الحالي هو قمة عطائي، بل أنتظر من عطائي الأفضل. وأنا يا سيدي محتاج إلى توازن، إلى عين وسطية، لا تراني معصومًا، ولا تراني (صفر ع الشمال). تعرف مني وتنكر.. تقول لي عند اللزوم أحسنت، ولا تمانع أحيانًا أن تقول لي: خذ بالك يا بن آدم.. وخير الأمور أوساطها، والله أعلى وأعلم. قال شاعر النيل حافظ رحمه الله تعالى في قصيدته: في حب مصر: كَم عالِمٍ مَدَّ العُلومَ حَبائِلاً --- لِوَقيعَةٍ وَقَطيعَةٍ وَفِراقِ وَفَقيهِ قَومٍ ظَلَّ يَرصُدُ فِقهَهُ --- لِمَكيدَةٍ أَو مُستَحَلِّ طَلاقِ يَمشي وَقَد نُصِبَت عَلَيهِ عِمامَةٌ --- َكالبُرجِ لَكِن فَوقَ تَلِّ نِفاقِ يَدعونَهُ عِندَ الشِقاقِ وَما دَرَوا --- أَنَّ الَّذي يَدعونَ خِدنُ شِقاقِ وَطَبيبِ قَومٍ قَد أَحَلَّ لِطِبِّهِ --- ما لا تُحِلُّ شَريعَةُ الخَلاقِ قَتَلَ الأَجِنَّةَ في البُطونِ وَتارَةً --- جَمَعَ الدَوانِقَ مِن دَمٍ مُهراقِ أَغلى وَأَثمَنُ مِن تَجارِبِ عِلمِهِ --- يَومَ الفَخارِ تَجارِبُ الحَلّاقِ وَمُهَندِسٍ لِلنيلِ باتَ بِكَفِّهِ --- مِفتاحُ رِزقِ العامِلِ المِطراقِ تَندى وَتَيبَسُ لِلخَلائِقِ كَفُّهُ --- بِالماءِ طَوعَ الأَصفَرِ البَرّاقِ لا شَيءَ يَلوي مِن هَواهُ فَحَدُّهُ --- في السَلبِ حَدُّ الخائِنِ السَرّاقِ وَأَديبِ قَومٍ تَستَحِقُّ يَمينُهُ --- قَطعَ الأَنامِلِ أَو لَظى الإِحراقِ يَلهو وَيَلعَبُ بِالعُقولِ بَيانُهُ --- فَكَأَنَّهُ في السِحرِ رُقيَةُ راقٍ في كَفِّهِ قَلَمٌ يَمُجُّ لُعابُهُ --- سُمًّا وَيَنفِثُهُ عَلى الأَوراقِ يَرِدُ الحَقائِقَ وَهيَ بيضٌ نُصَّعٌ --- قُدسِيَّةٌ عُلوِيَّةُ الإِشراقِ فَيَرُدُّها سودًا عَلى جَنَباتِها --- مِن ظُلمَةَ التَمويهِ أَلفُ نِطاقِ عَرِيَت عَنِ الحَقِّ المُطَهَّرِ نَفسُهُ --- فَحَياتُهُ ثِقلٌ عَلى الأَعناقِ لَو كانَ ذا خُلُقٍ لَأَسعَدَ قَومَهُ --- بِبَيانِهِ وَيَراعِهِ السَبّاقِ [email protected]