في 5 يناير الماضي حكى حارس معبد "الكرنك"، القابع في مدينة الأقصر، لمراسلي صحف محلية أن تماثيل المعبد تتحرك ليلاً، وأنهم يسمعون أصواتا تناديهم بأسمائهم. وبينما انشغل الإعلام المحلي بهذه الرواية، التي تدعم أسطورة "لعنة الفراعنة"، المنتشرة في كل المناطق المحيطة بالآثار الفرعونية، لم تنقطع البعثات العلمية الأجنبية التي تتعاقب على المعبد في محاولة لفك شفراته الأثرية. منشأ أسطورة "لعنة الفراعنة" ارتبط بنشاط البعثات الأجنبية في اكتشاف الآثار المصرية، حيث يعتقد أن أي شخص يزعج مومياء لمصري قديم، خصوصا لو كان "فرعونا" (حاكم مصري قديم) ستصيبه لعنة تقتله. عبد الستار البدري، مدير عام البحث العلمي في معبد الكرنك، رفض التطرق إلى هذه الروايات المرتبطة بأسطورة "لعنة الفراعنة"، مفضلا في حديثه مع وكالة الأناضول الحديث عن نشاط البعثات العلمية المرتبطة بهذا المكان المهم من أرض مصر، والذي وصفه العالم الفرنسي، جون فرانسوا شامبليون، الذي فك، لأول مرة، رموز "الهيروغليفية"، بقوله: "رحيب كل الرّحابة.. وعظيم كل العظمة". البدري قال إن "المعبد يستعد لاستقبال ثلاث بعثات علمية تبدأ عملها مع مطلع الأسبوع القادم، وأولى هذه البعثات من جامعة منس الأمريكية، وستبدأ من يوم غد السبت في نقل نقوش صالة الأعمدة الكبرى في المعبد لدراستها، ويعود تاريخ هذه النقوش إلى عصر الملك سيتي الأول (حكم بين عامي 1290 ق.م و1279 ق.م). أما ثاني هذه البعثات، فستوفدها جامعة شيكاغو الأمريكية أيضا لدراسة معبد "خنسو"، وهو إله القمر في مصر القديمة، و"خنسو" هو أحد المعابد التي يضمها الكرنك. أما ترميم حجرات الملك تحتمس الثالث (حكم بين عامي 1479 و1425 ق.م)، التي يضمها المعبد أيضا، فهي مهمة بعثة المركز المصري الفرنسي، حسب المصدر ذاته. نشاط هذه البعثات لم يمنع الزيارات المتواصلة على المعبد، من خلال الرحلات العلمية التي تنظمها مجموعات شبابية مهتمة بالآثار المصرية، وحضرت "الأناضول" زيارة لمعبد الكرنك مع أحد هذه المجموعات، والتي تسمي نفسها "فسحة". و"فسحة "مجموعة شبابية تهدف إلى إقامة رحلات وفعاليات تثقيفية ترفيهية بأسعار زهيدة إلى مختلف الأماكن الأثرية في مصر، التي لا يعرف عنها الشباب الكثير، بهدف تنمية شعور الشباب المصري بالانتماء لثقافة وطنهم، فهذه المجموعة الشبابية تؤمن أن الشخص لن تنتمي إلى وطنه، إلا حينما يتعرف عليه حق المعرفة ويلم بخبايا تاريخه، على حد قول، محمد رفعت، وهو مؤسس "فسحة" لوكالة الأناضول. ويضم فريق فسحة مجموعة من المرشدين السياحيين يصاحبونه في رحلاته، ومنهم المرشد السياحي محمد أحمد، الذي اصطحب مجموعة في جولة داخل معبد الكرنك، الذي يمتد على مساحة 63 فدان واستغرق بناؤه 2500 عام. ويقول محمد أحمد إن "ملوك مصر من الفراعنة تسابقوا في أن يضيف كل منهم لمسته الخاصة على المعبد عقب وصوله للحكم، لذلك استغرق بناءه هذا الوقت الطويل، ويضم بجانب خمس آثار العالم كل أشكال فنون العمارة في مصر القديمة، بحسب اللوحة الإرشادية التي تستقبل الزائرين في مدخله". تسمية المعبد ب"الكرنك" اختلف حولها المؤرخون، فبعضهم يرجح أنه اكتسب تسميته من اجتماع الوزراء فيه، إذ تعني "الكرنك" بالهيروغليفية "المكان المختار"، وبعضهم يرجح أن اسم الكرنك مشتق من "قصر الخورنق" الموجود في بغداد للتشابه الكبير بين المكانين، حسب المرشد السياحي. وأوضح أحمد في حديث ل"الأناضول" أن "الكرنك يحتضن 24 معبدا فرعونيا متداخلين، تم بناء معظمهم في عصر الدولة الحديثة، حيث كان يعبد في هذا المكان الإله آمون رع، ملك المعبودات المصرية القديمة، التي كانت تقدر ب 1500 إله، لذلك يعتبر هو أكبر وأعرق دار عبادة عرفها التاريخ الإنساني. ويبدو القاسم المشترك بين كل هذه المعابد هو تشييدها لتطل على نهر النيل، وهو ما فسره أحمد بقوله: "هذا طبيعي، حيث كانت المراكب هي أسرع وأوفر وسيلة نقل في مصر القديمة". ومن أبرز مكونات المعبد "صالة الأعمدة الكبرى"، وهي أكبر صالة أعمدة أثرية في العالم؛ إذ تتكون من 134 عمود تمثل زهرة البردي شيدها الملك سيتي الأول (حكم بين عامي 1290 ق.م و1279 ق.م)، ثم أكملها نجله الملك رمسيس الثاني (حكم بين عامي 1279 ق.م و1213 ق.م). ورغم مرور آلاف السنين لا تزال الصالة تحتفظ بالرسومات الفرعونية الغائرة عليها وألوانها البرّاقة. ووفقا للمرشد السياحي المصري، محمد أحمد، فإن المسلات التي تقف لاستقبال الزائرين في معبد الكرنك تجسد براعة الفراعنة في علم الأوزان والهندسة المعمارية وتطوير بناء المسلات التي كانت تمثل في ثقافتهم بديلا اقتصاديا لبناء الأهرامات. ووفقا لمعتقدات المصريين القدماء كان تشييد كل ملك لهرم يحمل اسمه ضرورة، لكن التكلفة الكبرى لبناء الأهرامات دفعت الكثير من الملوك إلى بناء مسلة يعتليها هرم صغير ويتم كسائها بالذهب الخالص لتعكس أشعة الشمس على المدينة بأسرها. ومن أضخم مسلات المعبد مسلة حتشبسوت التي تزن 250 طنا ويبلغ ارتفاعها 30 مترا. وتعد "البحيرة المقدسة" من أبرز مكونات معبد الكرنك، التي يحرص السيّاح على زيارتها لما تجسده من دلالة اتقان المصري القديم لعلوم الهندسة والجيولوجيا والميكانيكا والحساب، فضلا عن إلمامهم بخواص المياه، بحسب المرشد السياحي محمد أحمد. ووضع المصريون القدماء أسفل البحيرة أوعية تعمل على حفظ منسوب المياه بها كي لا تزيد ولا تنقص مهما اختلفت درجة الحرارة ومرت السنوات، وهو ما لا يزال قائما حتى الآن، بحسب ما رصدته عدسة الأناضول. ولا يزل معبد الكرنك رغم كل هذه الاكتشافات محتفظا بالكثير من أسراره، وتتعاقب عليه البعثات العلمية في محاولة لكشفها، غير عابئين ب"أسطورة لعنة الفراعنة".