قوات "الحشد الشعبي" دعا إلى تشكيلها المرجع الشيعي العراقي السيد علي السيستاني بموجب فتوى في شهر يونيو الماضي عقب إحكام "داعش" سيطرته على مناطق واسعة في غرب العراق، وإعلان دولته باسم "الدولة الإسلامية" على الأراضي التي يسيطر عليها في العراقوسوريا، واعتبارها دولة الخلافة ، هدف الفتوى وتأسيس تلك القوات ذات اللون الطائفي هو مواجهة "داعش" وقتاله ووقف تقدمه باتجاه بغداد واستعادة ما سيطر عليه من أراضي وحماية المقدسات والمزارات والرموز الدينية ، لكن كل التقارير الواردة من مناطق الحرب مع "داعش" مزعجة ومقلقة حيث يتعدد ارتكاب مجازر وأعمال انتقام وثأر بشعة وإشعال حرائق وعمليات تصفيه بحق القرى السنية وسكانها تحت زعم أنهم تعاونوا مع "داعش"، أو رحبوا به . التقارير ليست محلية فقط حتى لاتُتهم بالانحياز وفقدان المصداقية ، بل هناك منظمات حقوقية دولية كبرى مثل "هيومن رايتس وواتش" ذكرت تلك الجرائم، واعتبرتها ترقى لجرائم حرب، ورئيس الأركان الأمريكي مارتن ديمسي يدلي بتصريحات منذ أيام يحذر فيها من حدوث توترات طائفية في المناطق التي يتم طرد "داعش" منها، ويدق ناقوس الخطر من ارتكاب جرائم، ومن صعوبة السيطرة على ما يجري في المناطق المحررة ،هذا المسؤول العسكري الأكبر والابرز في الجيش الأمريكي له قوات وخبراء وعملاء على أرض المعركة دون المشاركة المباشرة فيها، وبالتالي لا يمكن أن يطلق تحذيرات غير دقيقة، فالمؤكد أنه يستند على تقارير موثقة تصله من ساحات المعارك المفتوحة والمرعبة والمستباح كل شيء فيها حيث تتم عمليات إعدام خارج القانون للمدنيين تحت عنوان أنهم دواعش أو متعاونين، والفرز هنا سيكون صعبا بين المدني وبين الداعشي الحقيقي ، وقد شاهدت فيديو لهذا النوع من القتل للمدنيين يقوم به منتمون لفصائل في "الحشد" لا يقل رعبا وبشاعة عما يصوره ويبثه "داعش" لرهائنه. مكتب السيستاني نفسه أصدر بيانا دعا فيه لعدم الانتقام، والمتحدثون باسمه طالبوا بعدم المس بالمدنيين والحفاظ على الأرواح والأعراض ، لكن مع ذلك تتوالى أنباء الجرائم، والإعلام ينقل لقطات لبعضها على قدر ما يستطيع الوصول للمناطق المنكوبة ، وهناك شهادة عالية الصوت للسيد مقتدى الصدر المرجع الديني والسياسي حيث ندد بمليشيات وجماعات وصفها بأنها "وقحة" ضمن "الحشد الشعبي". نقلت الفضائيات حرائق بيوت عشيرة "البوعجيل" تحت ذريعة أنهم تعاونوا مع تنظيم الدولة، وسابقا حصلت مجازر جماعية في أكثر من قرية ذهب ضحيتها في إحدى القرى أكثر من 70 رجلا، ولهذا قام آنذاك الساسة السنة في البرلمان والحكومة والرئاسة بتعليق نشاطهم حتى يتم إيقاف المذابح والتحقيق في الجرائم والسيطرة على انفلات تلك العصابات ، ومع ذلك لا تتوقف الجرائم المخزية المخلوطة بالطائفية المقيتة المنكوب بها العراق، والتي تخيم على المنطقة. الحرب في مواجهة "داعش" لم تعد حرب العراق الدولة في مواجهة تنظيم دموي ، إنما صارت حرب ميليشيات طائفية تعكس مسار الصراع في هذا البلد منذ احتلاله أمريكيا. والمعركة فيها الجانب القومي أيضا من خلال مشاركة ميليشيات كردية انتقاما من "داعش" الذي كان في طريقه ل "أربيل" عاصمة كردستان والذي ينكل بالأكراد في سورياوالعراق، كما تجاوزت الحرب البعد الطائفي والقومي المحلي إلى البعد الإقليمي من خلال المشاركة الإيرانية العلنية والصريحة ، فالحرس الثوري يقاتل بشكل مباشر والجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس يخطط ويقود المعارك على الأرض بنفسه، ويفعل الأمر ذاته في سوريا مع الأسد، وفي لبنان لصالح حزب الله، وليس مستبعدا أن تكون أياديه في اليمن مع الحوثي. إيران تعلنها صريحة أنها تحارب إرهاب "داعش"، وقادة العراق يقولون نحن طلبنا دعمها، وخرج مستشار الرئيس الإيراني مزهوا بتعاظم دور بلاده في العراق وبلدان عربية عديدة قائلا إن بغداد هي عاصمتنا والعراق هو مجال حيوي لهويتنا وحضارتنا وثقافتنا وعبر عن مكنونات حلم العقل الإيراني بالتوسع شرق أوسطيا لاستعادة مجد إمبراطوري قديم لكن بلون طائفي مذهبي شوفيني. كان الأمل أن يكون حيدر العبادي رئيس حكومة العراق بداية جديدة لبلد بلا طائفية ولا مذهبية سياسية، لكن يبدو أن هذا الأمل صعبا، إن لم يكن مستحيلا طالما أن العمائم بمختلف ألوانها وأشكالها هي من تحكم وتحدد مصير العراق وبلدان أخرى في المنطقة، بل إن الصراع الديني المذهبي هو من يسيطر على المنطقة التي تندفع نحو حتفها، إن لم تخرج من دوائر الكراهية الدينية والمذهبية والطائفية والقومية والعرقية والجنسية، وإذا لا قدر الله وبدأ مخطط التقسيم الذي يتم الترويج له فسيكون على أسس دينية. هل كانت فتوى الجهاد الكفائي للسيستاني موفقة؟، وهل أفادت بناء دولة عراقية ذات حكومة مركزية قوية تبسط سيطرتها على التراب العراقي وتتعامل مع الجميع بمساواة وتفرض المواطنة وتخرج من سجن الطائفية؟. الأصل أن جيش الدولة الرسمي هو من يحارب تنظيم "داعش" أو غيره، أما وجود ميليشيات محلية وإقليمية تقود هي الحرب، والجيش مجرد غطاء لأنها أقوى منه، فإن هذه كارثة للدولة فكرة وواقعا، وتعني عدم مغادرة العراق مربع المحاصصة والتقسيم؟. في النهاية فإن "داعش" الدموي نموذجا للتطرف المرتبط زورا بأهل السنة، والفصائل الدموية في "الحشد" هي الوجه المقابل للتطرف المرتبط زورا بالطائفة الشيعية، والتنظيمات والجماعات من هذا النوع، وكذلك الأنظمة المسكونة بالعقل الميليشاوي الطائفي يقودون المنطقة كلها إلى محارق دينية سبق وتخلص العالم وأصحاب الأديان الأخرى منها بعد أن وجدوا ألا فائدة لها، لكن الكلفة كانت ملايين الضحايا وقرونا من التخلف والكراهية، واليوم خرجت هذه الأمم والعوالم إلى الحياة والنور والحرية والمدنية والحضارة والرفاهية لشعوبها، بينما نحن مازلنا محبوسين في تلك الكهوف الفكرية والعقلية البائسة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.