إذا كنت لا تعرف المصطبة فهي مجرد أريكة أمام باب الدار يجلس عليها الناس في الريف لأسباب متعددة ، أهمها الجلوس في الهواء الطلق خاصة في الصيف ، ثم الاطلاع علي أحوال القرية و أخبارها ، وبما أن شوارع القرية لا تزيد عن ثلاث أو أربع شوارع ، فإنك علي المصطبة سيمر بك ربع السكان علي الأقل بعضهم سيلقي السلام ويمضي والبعض سيتجاذب معك أطراف الحديث أو يسهر معك ، بعضهم سيتبادل معك إلقاء النكات والطرائف والبعض سيتشاجر معك ، وفي آخر الليل سيكون معك حصيلة كبيرة من الأخبار والأسرار والانطباعات الجيدة أو السيئة عن الآخرين . كانت المصاطب هي شبكة التواصل الاجتماعي الطبيعية لديك فيها عدد كبير من ( الفريندز ) بعضهم تقول لكلامه ( لايك ) وبعضهم تعلق علي كلامه بملحوظة ( كومينت ) وفي النهاية أنت متلهف كل ليلة لجلسة جديدة ، الناس حاليا مشغولة أو تدعي ذلك (لأنها لو مشغولة فعلا من أين تأتي بالأوقات الطويلة علي الفيس بوك ؟ ) ربما الناس محبوسة داخل المياه الإقليمية للبيت تسبح في مساحة حدودها من المطبخ إلي السرير مرورا بالتليفزيون ثم تستقر طويلا أمام شبكة التواصل الاجتماعي الافتراضية علي النت ، الميزة الأساسية أن هذه الشبكة تعوض افتقاد التواصل الطبيعي لأنه بدونها ستنقطع العلاقات تماما وكما أصبحنا نأكل ونتسوق دليفري فلا بأس أن نتواصل ونتزاور علي الأكونت أو المصطبة الخاصة بنا علي الفيس بوك . بالنسبة لي لم أعتد حتي الآن علي قعدة المصاطب ، فلا أتفاعل جيدا مع أصدقائي علي الفيس بوك ، عدد كبير منهم من الشباب الصغير من أقاربي ، أولادي وابنتي وأبناء أخواتي عندما أدخل عليهم ألقي عليهم نظرة فقط ، هم يتفاعلون بطريقتهم ولا أعتقد أنني سأضيف الكثير لجلساتهم المرحة والبريئة ، لكنني أعرف الأخبار ، أعرف من لديها مشكلة وتقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأستنتج مشكلتها ، وأعرف الأخبار السارة أيضا نجاح أو خطوبة أو سعادة بريئة ورقيقة ، أعرف من سافر ومن عاد لبلده ومن مرض ومن شفي ومن أبدع ومن شاغب ، ابتسم لكلمات البعض وأدعو للبعض بدون تعليق ، ربما لشعوري أن شبكتهم الرقيقة لن تتحمل أكثر من كلماتهم ومشاعرهم الخفيفة . لكن ( أحمد ) قصته مختلفة فقد عاد من السعودية ليدخل الجامعة وهي حكاية تتكرر كثيرا ، هو يقول أنه ( مغترب في وطنه ) في السعودية كان أجنبيا وفي مصر صار وافدا فمتي يصبح مواطنا ؟ هو ينظر للمجتمع المصري من الظاهر ويرصد ملامحه ، وأقول له يا أحمد ( عيشها ولا تفلسفها ) حتي تحصل علي المعني الحقيقي للحياة ، ووقتها ستصبح مواطنا مصريا صميما ، المصريون يعيشون الحياة بشكل إبداعي ، رغم قسوة الظروف وتناقضها يتعلمون ويعملون ويتزوجون ويقومون بثورة أيضا ، هناك العديد من الأسر لو نظرت لحالها من الخارج لتعجبت كيف عاشوا ؟ لكنك لا تعرف عبقرية التصرف في كل مشكلة ، هم يعملون من الفسيخ شربات ويتكاتفون معا في الشدائد ويهونون علي أنفسهم الصعب بطريقتهم . هناك أسر تعيش علي ( العفشة والسقط ) ومعها بعض الخضار والأرز وسعداء لأنهم يأكلون طبيخ كل يوم ، وهناك نظام الجمعيات والنقوط والهدايا للعريس لمساعدته في الزواج ، يستخدم المصري سلاح المرح لمواجهة تجهم الحياة وإذا رزقك الله بمصري خفيف الظل فسوف تنسي متاعبك وتغسل روحك من أدرانها من قفشاته ونكاته المرحة ، المرح قمة التحضر والذكاء الاجتماعي والنكتة البريئة هي تكثيف لموقف ورصد لتناقض يجعلك تضحك وتري الأحداث من منظور مختلف . ربما وأنت في أتوبيس النقل العام محشورا في زحمته والحر خانق تجد صوتا عذبا يشدو بأغاني جميلة بشكل محترف ويتجاوب معه الجميع ولا يشعرون بالوقت ، أو يتلو أذكارا وأدعية أو حتي يرسم اسكتشات بارعة الجمال في الشارع . حضارة آلاف السنين مختزنة بداخل المواطن المصري وتخبط السياسات وزيادة الضغوط يزيد شخصيته نضجا وحكمة ، يقول علماء النفس ( نحن مدينون للظروف الصعبة ) ومن عاش وقاوم هو الأقوي ، رويدك يا ( أحمد ) ماء النيل وهواء مصر وتفاصيل الحياة اليومية سوف تجعلك مصريا حتي النخاع . [email protected]