لم يكن مشهد المذيع الليبي وهو يهدِّد ويتوعد من الفضائيَّة الرسميَّة "الجرذان" و"الصليبيين"، ويدعو الشعوب العربيَّة إلى الدفاع عن نفطها وعن "ليبيا القذافي"، سوى أمر مثير للسخرية والضحك، بينما كان عشرات الملايين يتابعون اللحظات الأولى لفتح طرابلس بالثورة المزدوجة، من داخلها ومن القادمين من المدن الأخرى. تهاوى القذافي سريعًا برغم المجازر والإبادة والتعذيب، ولم تصمدْ كتائبه ساعات قليلة، وفرَّ أعوانه وأُسر آخرون، وانتهت بذلك حقبة من أسوأ الأزمنة التي مرَّت على الشعب الليبي، إذ أمعن هذا المعتوه فيه تجهيلًا وإفقارًا، وإذلالًا، وجعل من دولته سخرية العالم، ومن نفسه بهلوانًا مخجلًا لصورة العرب والمسلمين الحضاريَّة! ليس القذافي فقط من تهاوى وانهار، بل هي بقايا النظام الرسمي العربي، الذي كان مسئولوه إلى ما قبل 24 ساعة فقط من تحرير طرابلس يراهنون على أنّ الاستعصاء الليبي واليمني والسوري، والسجالات المصريَّة والتونسيَّة، هي عنوان انتهاء الحلم العربي واحتوائه بإصلاحات شكليَّة أو تخويف. سقوط القذافي هو بمثابة ولادة اللحظة التاريخيَّة الثانية في موجة الربيع الديمقراطي العربي، وهو نذير شؤم لنظامي الأسد وعلي عبد الله صالح، وقد كان الإعلام الرسمي السوري، لسخرية الأقدار، يبشّر حتى اللحظة الأخيرة بثبات القذافي، ثم قطع الحديث عن الثورة الليبيَّة! في الوقت نفسه كان الأسد يتحدث في مقابلة تليفزيونيَّة عن الوضع الأمني المستقر، والتحسن الاقتصادي والحرية الإعلاميَّة التي لا تعرف سقوفًا، وكأنّ المواطن السوري يعيش في السويد أو الدنمارك! كنت أسأل نفسي وأنا أستمع إليه: من يخدع؟! هل يضحك على نفسه، أم على الشعب الذي يستمع إليه وهو يكتوي بنار القذائف وب"جحيم" التعذيب والاعتقالات، أم الوطن المجزأ عسكريًّا لمنع المسيرات السلميَّة؟! مثل هذه النظم هي خارج اللحظة التاريخيَّة اليوم، ليس لها مكان تحت الشمس، فلا يمكن أن نستمع لمثل هذا الخطاب النرجسي المغرق في التغابي، إلا قبل العصر الجديد، عندما كانت الشعارات الزائفة الخدّاعة تستهوي قلوب الجماهير المكلومة، فتتنازل عن حقوقها الإنسانيَّة والسياسيَّة تحت وطأة الشعور بالوطنيَّة، بينما، في الحقيقة ذلك التنازل هو الخيانة العظمى للوطنية الحقة، فالأيدي المرتعشة لا تبني الأوطان والمقيدة لا تحمي البلاد! الضربة القاصمة هي للتيار الرسمي العربي، ولمسئولين متذاكين، كانوا يروِّجون لانتهاء "المولد الديمقراطي"، فجاء تحرير طرابلس ليؤكد أنّنا على أعتاب زمن جديد مختلف بالكليَّة، وأن عقارب الساعة لن تعود إلى وراء، وأن النظام الرسمي العربي بصيغته المتبقية قد انتهى، فإمّا أن تولد الثورة من رحم التغيير السلمي التوافقي أو تنفجر، لكنها لن تتوقف. انتصار الثورة الليبيَّة بمثابة رد صارم مزلزل على فلول تيار فكري وسياسي ما يزال يقفز على معاناة الشعوب العربيَّة وجراحها، ويؤازر أنظمة فاشيَّة مستبدَّة فاشلة، بدعوى القضية الفلسطينيَّة والقوميَّة ومناهضة الصهيونيَّة. لم يعد هذا الخطاب مقبولًا لدى الشارع العربي بحال من الأحوال، ولن يضحي أحد بحريته على مذبح دعاوى خادعة استُغلَّت فقط لتبرير الفساد والاستبداد وتسويق الظلم والطغيان، وقد أثبت المصريون بالأمس، عندما أنزل فتى العلم الإسرائيلي عن السفارة، أنّ الشعوب العربيَّة هي الأقدر على معرفة بوصلة المعركة، داخليًّا وخارجيًّا، وأنّه لا خوف من شعوب حرة متحرِّرة لها كرامتها، وتحترم ديمقراطيتها، فالخشية هي فقط من أنظمة عفنة وشعوب مرعوبة وثقافة تحتفي بالديكتاتوريَّة والنفاق! أنا متفائل جدًّا، فهاهو الربيع العربي ينتشر، ليفتح أفقًا جديدًا للأجيال القادمة، علَّها تحظى بالعدالة والحرية والإنسانيَّة. المصدر: الاسلام اليوم