يتكرر "الفيل" فتتكرر "الطير الأبابيل"، والمدهش أن "أصحاب الفيل" لا يتعظون أبداً، مهما تكرر المشهد وتأكدت العبرة. كان "فيل أبرهة" رمزاً للقوة الغاشمة التى لا قبل لمن لا يملكها بمقاومتها، وكانت الهزيمة الساحقة التى لقيتها هذه القوة على يد "الطير الأبابيل" درساً إلهياً بليغاً، فها هى "العصافير" تهزم "الفيلة" والحجارة الصغيرة التى لا تكاد ترى تنتصر على السيوف والرماح، وتخترق الدروع لتحيل الفرسان المتحصنين بها إلى "عصف مأكول"، فى مشهد مهيب للقدرة الربانية. واليوم، تأتى الطيور حاملة أصغر أنواع "الحجارة من سجيل"، تحمل فى أنفاسها وريشها وبقاياها فيروس الأنفلونزا القاتل، ذلك الذى يؤدى إلى الحمى، وتكوين الجلطات الدموية فى الرئتين والدماغ وأعضاء أخرى فى الجسم، فكأننا أمام مشهد جيش "أبرهة" وفرسانه المحمومين يتساقط لحمهم قطعة قطعة حتى تنشق الصدور وتزهق الأرواح، وتأتى الآية الكريمة "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"، فى تصريح ليتنا نتعلم منه بأن المقصودين بالعقاب هم "أصحاب الفيل"، هم من نسوا الحق واستهانوا بالقيم والأخلاق وركنوا إلى القوة وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، هم من اعتقدوا أنهم أهل الأرض القادرون عليها، هم من تبنوا "البراجماتية" أو "الغائية"، ساعين إلى صداقة "أمريكا" لأنها قوية كالفيل وإلى عدم إغضاب "الصهاينة فى فلسطينالمحتلة وفى غيرها، لأن لهم نفوذا كالفيل لا قبل لهم بمقاومته، هم من باعوا واشتروا مع الأعداء "خشية إملاق" وخاصموا وعادوا ذوى قرباهم "خشية إقلاق.. الأعداء". ولنتذكر أن "الطيور" هذه كانت أحد الأسباب التى ساقها الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" لتبرير المعاهدة التى وقعها مع الصهاينة، فقد صرح بأنه أراد لأبنائه يعنى نحن المصريين أن يأكلوا دجاجاً سميناً كالذى أكله فى النمسا، وما كان يمكن فى رأيه أن ننصرف إلى مثل هذه التنمية طالما نحن مشغولون بحربنا مع الكيان الصهيونى، حتى وإن كانت حرباً مشروعة ضد عدو سلب أرضنا وقتل أهلنا وأحرق مسجدنا. كانت المعاهدة إعلاء لدواعى القوة قوة العدو، حيث صرح السادات بأن الكيان الصهيونى يقاتلنا بالسلاح الأمريكى "وأنا ما أقدرش أحارب أمريكا" وصفق الحضور! على حساب دواعى الحق الذى أمرنا ديننا أن نقاتل فى سبيله، فإنها إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، ولم يطلب منا ونحن نقاتل أن نتذرع بالقوة القصوى، لم يطلب منا أن نمتلك "الفيل" قبل أن ندخل المعركة، بل أن نتذرع بما أمكن "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". والآن، دعونا نتأمل المشهد بعيدا عن "تصفيق الحضور" ل"التصريح بالعجز" والرغبة فى "مداراة القوة والاحتماء بها"، لنكتشف أن المنادين بمنطق "أصحاب الفيل" خسروا كل شئ، خسروا "الحق" ولم ينجو من بطش القوة، وحتى فتات النعمة الذى طمعوا فى الحصول عليه "الدجاج السمين" تحول إلى نقمة عليهم، تحول إلى أداة عذاب وعقاب تحمل "حجارة من سجيل" هى ذلك الفيروس القاتل، نعم.. حجارة، فالفيروس هو الحالة الوسيطة بين الجماد والكائن الحى، وهو يتصرف خارج الخلية الحية كأنه جماد "حجر"، فإذا ما اخترق الخلية الحية احتل نواتها وسخرها لإنتاج أجيال جديدة منه تصيب ما لم يصب من الجسد نفسه الذى أنتجها، وتستمر الدورة ويستمر تساقط الجسد قطعة قطعة.. بالطريقة نفسها التى تساقطت بها أجساد جنود جيش أبرهة. ولو فكرتم قليلاً لأدركتم أن السلاح الذى يسخر الجسد لإنتاج ما يدمره هو أقوى سلاح على الإطلاق، وإن بدا أمام غير العارفين فى صورة فيروس متناهى الصغر. وأن "الطيور" التى تحلق منتقلة من مكان إلى آخر بلا رادع يردعها ولا حابس يمكن أن يحبسها هى أشد أدوات نقل الأسلحة فتكاً، إذ لا يمكن منعها ولا يوجد مكان للاحتماء فيه من "شرها"، هى أقوى وأخطر من "الفيل" الذى حسبه أصحابه قوياً. ولو فكرتم ثانية لأدركتم أن هذا هو شأن "القوة"، إذ لا يمكن أبداً الوصول بها إلى "الحد الآمن"، وستظل هناك عوامل فتك تهدد الإنسان من حيث لا يدرى ولا يحتسب، أما "الحق" فهو أبلج "واضح"، ومؤداه أن يتمسك الإنسان والأوطان بالكرامة وصيانة الأخلاق والقيم والأرواح والأرض والعرض. وهو موقف قادر على أن يمنح صاحبه الحياة الطيبة أو الميتة المشرفة، وكلاهما خير من "الطير الأبابيل" يا "أصحاب الفيل".