المظاهرة الضخمة التي شهدتها العاصمة الفرنسية أمس كانت غير مسبوقة في تاريخ فرنسا على حد وصف وزير الداخلية ، كما أنها حدث لافت بالفعل ، حيث قدرت أعداد المشاركين فيها بحوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون ، وهي حدث إنساني يستحق التأمل كما يستحق التقدير ، لأنه تضامن شعبي ضد الإرهاب الذي يهدد نسيج المجتمع الفرنسي نفسه ، وليس مجرد صحفييه أو أصحاب الرأي فيه ، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه جيدا ، لأن عواقب تلك العملية يمكن أن تتسبب في انقسام مجتمعي خطير وصراعات أهلية مكبوتة سرعان ما تنفجر عند أي احتكاك ، لأن فرنسا يعيش فيها حوالي خمسة ملايين مواطن مسلم ، والتقديرات غير الرسمية تتحدث عن أرقام أكبر من ذلك إذا ضم إليهم المهاجرون الذين لم يوفقوا أوضاعهم بعد ، كما أن فرنسا فيها يمين متطرف له موقف شديد العداء من المهاجرين بشكل عام ومن الإسلام والمسلمين بشكل خاص ، ولذلك كان حرص الرئيس الفرنسي "أولاند" ووزير داخليته ومعظم الوزراء على التأكيد بأن تلك الواقعة لا صلة لها بالإسلام والمسلمين ، بل هي فعل مجموعة من الإرهابيين والقتلة ، كما أن مقتل شرطي مسلم على أبواب المجلة المشئومة ومقتل موظفة مسلمة أخرى بداخلها أعطى مثل هذه التصريحات مصداقية عالية ، إضافة إلى الحدث الذي جذب انتباه الإعلام الفرنسي والأوربي كله وهو قيام مواطن فرنسي مسلم من أصول مالية بحماية خمسة عشر شخصا من القتل في المتجر اليهودي وهربهم في الطابق الأسفل ووفر لهم الأمان والطمأنينة حتى انتهت الأزمة ، ووصفوه هناك بالبطل ، وأحيا في الخيال الأوربي ذكرى الهولوكوست والأبطال الذين ساعدوا بعض الضحايا على الهرب والنجاة ، وقد كان لافتا أن "الإرهابي" الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتصل ليعلن عن شكره وامتنانه للعمل البطولي الذي قام به الشاب المسلم . التظاهرة الفرنسية أساء إليها أمران كان ينبغي أن يكون هناك عقلاء يمنعون حدوثهما ، الأول هو رفع المظاهرة أو أجزاء منها رسوما كاريكاتيرية مسيئة للإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، من تلك التي كانت قد نشرتها مجلة "شارلي ابدو" وهذا عمل صبياني أو طفولي بامتياز ، لأن التضامن العالمي لم يكن مع الرسوم ولا تأييدا لها ، بل كان ضد الإرهاب واستخدام العنف لمواجهة الأفكار أو الرسومات السيئة ، وشتان بين الحالين ، وقد شعر كثيرون من المشاركين بالحرج حتى أن الوفد المغربي اضطر للانسحاب وعدم المشاركة في المسيرة بسبب تلك اللافتات تحديدا ، واكتفى بتقديم العزاء للرئاسة الفرنسية ، وأما الأمر الثاني فهو مشاركة عدد من القيادات السياسية التي وصمت بممارسة الإرهاب سابقا ، مثل رئيس وزراء الكيان الصهيوني "نتانياهو" الذي تلوثت يده بقتل أكثر من ألفي مواطن فلسطيني بينهم العشرات من الأطفال والنساء ، كما أنه متورط في قتل حوالي خمسة عشر صحفيا فكيف له أن يشارك في مظاهرة احتجاجا على قتل الصحفيين ، كيف لهذا القاتل أن يكون في صدارة هذا المشهد كما نقلت الصور ، وكانت الصحافة الإسرائيلية "هاآرتس" قد نشرت تقريرا أفادت فيه أن الرئاسة الفرنسية اتصلت بنتانياهو وطلبت منه عدم الحضور للمشاركة في المظاهرة لرفع الحرج ومنع حدوث انقسام حول شرعيتها ، إلا أن نتانياهو أصر على الذهاب وأن يقف في صدارتها بكل بجاحة وبجوار الرئيس الفرنسي نفسه . كذلك مشاركة وزراء ومسؤولين من بعض الدول العربية ودول العالم الثالث هو أمر شديد الفجاجة ، لأن الصحافة أكثر ما تعاني هناك والتقارير الحقوقية الدولية متواترة في ذلك ، وهناك عشرات المعتقلين من الصحفيين والكتاب في مصر والإمارات على سبيل المثال كما قتل عدد من الصحفيين وما زالت التحقيقات لم تنته حول ظروف اغتيالهما حيث يوجه كثيرون الاتهام إلى جهات رسمية ، فكيف لمسؤولين من تلك الدول أن يشاركوا في مظاهرة تضامنا مع الصحافة ضد تكميم الأفواه أو ترويع الصحفيين أو قتلهم ، هذا أمر خارج حدود المعقولية واللياقة ، وكان الكثير من المعلقين على هذا المشهد قدا استقبحوا مشاركة هذه النوعية ، وكتب بعضهم "هافنجتون بوست" يقول بأن ذلك أشبه بالبصق على قبور الضحايا في مذبحة "شارلي ابدو" . ردود الفعل الأوربية بشكل عام كانت عاقلة وحكيمة ، وأكثر عقلا وحكمة واعتدالا من ردود فعل بعض الحكومات العربية والإسلامية ونخبها الثقافية والإعلامية التي حاولت المتاجرة بالموضوع ، وهناك إدراك متزايد بأن هذه الأعمال الإرهابية ليست لصيقة بالإسلام ، وإنما بأجواء سياسية عصيبة تحاول استغلال الإسلام لتبرير أعمالها ، وكان لافتا في ألمانيا أن يقوم وزير العدل بزيارة أحد أكبر مساجد العاصمة في اليوم التالي لمذبحة "شارلي ابدو" ليؤكد على وحدة ألمانيا واعتزازها بمواطنيها المسلمين وأنها تفرق تماما بين الإسلام والمتدينين المسلمين وبين أصحاب النزعات الإرهابية ، وألمانيا كانت قد عانت في السبعينات من منظمات إرهابية يسارية "بادر ماينهوف" مارست القتل والاختطاف والعنف ، لا صلة لها بالإسلام ولا بالعرب ، كما أعلنت المستشارة الألمانية عن مشاركتها في مظاهرة كبيرة ينظمها المسلمون في العاصمة للتنديد بالإرهاب والتأكيد على وحدة ألمانيا ، وسوف يشارك معها عدد من الوزراء الألمان ، هذا تطور إيجابي جدا ، ويفتح الآفاق لشراكة أوربية أكثر فاعلية لمناصرة قضايا الحريات والعدالة والديمقراطية في العالم العربي ، بوصف ذلك المدخل الطبيعي لمحاصرة الإرهاب ووأده في مهده .