"ارفع عدد القتلى في سوريا إلى ثلاثة عشر شخصا" هكذا طلب مني زميلي مسؤول الشفت (الوردية) في وكالة الأنباء التي أعمل بها.. "كانوا عشرة منذ دقائق..." هكذا حدثت نفسي... ثلاثة قتلوا هكذا ببساطة.. ثلاثةحيوات انتهت في لحظة على أيدي الشبّيحة ونحن نرفع الأعداد... بشار يذبح.. ونحن نرفع الأعداد.. عشرون قتيلا في جمعة "لن نركع" وأربعون في جمعة "بشائر النصر" وستون في جمعة "أطفال الحرية" وثمانون في الجمعة العظيمة.. تتوالى الجمع ويتوالى سقوط الشهداء... ونحن هنا نراقب الأعداد... أهكذا أصبح الشهداء مجرد أعداد وأرقام؟؟ أليس دم واحد حرام كفيلا بإسقاط دولة ظالمة؟؟ لكأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة ويخاطبها فيقول "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عنداللَّه حرمة منك: ماله ودمه وأن يظن به خيرا". كم من هؤلاء كان ينتظر حياة طويلة وآمالا عريضة أنهاها الظالم بجبروته.. لكأني أرى بينهم رضيعا نائما في سكينة... وطفلة تلاعب دميتها... وفتاة تعدالأيام انتظارا ليوم عرسها... وأبا عائدا إلى أسرته بعد يوم عمل شاق... وزوجةتُمنّي نفسها بذرية صالحة... ومئات التفاصيل التي دهستها الدبابات ومزقها الشبيحة... فقط لأن الديكتاتور أراد ذلك.. "كل شيء تحطم في نزوة فاجرة" كما يقول أمل دنقل.. نزوة القتل الغادر.. فقط لأن الديكتاتور ساءه أن يتجرأ الشعب ويطلب شيئا يسمى الحرية لم تره أجيال كاملة ولدتوعاشت في ظل حكم عائلات وعصابات جثمت على قلوب الشعوب منذ عقود.. لكن الله يأبى إلا أن يرينا أن هذه الدماء لا يمكن أن تذهب سدى، وأنها قبل أن تلمس الأرض، فإنها تنزل لعنة على الظالم وزبانيته فردا فردا.. ليتحقق اسمه العادل... أوليس هو القائل: "إن الله عزيز ذو انتقام". كنا نقول دائما إن الله يمهل ولا يهمل.. ونتناقل القصص عن انتقام الله من الطواغيت، متطلعين إلى الوقت الذي تتحقق فيه هذه السنن الربانية، حتى رأيناها بأم أعيننا.. رأينا الجبارين في قيود الخزي وفي منافي الذل.. رأينا الديكتاتور الذي كان يقول ما أريكم إلا ما أرى ويعدّ على الناس ركعات الصلاة... يستعطف شعبه مرتعشا وهو يقول: فهمتكم.. رأينا من كان يعد ابنه لخلافته رغم أنف الشعب، وقد أدخل السجن هو وخليفته المزعوم... ورأينا من شاهت ناصيته الكاذبة بنيران الثورة في الدنيا قبل الآخرة.. ورأينا من يصف الثوار الأطهار بالجرذان وهو يفرّ كجرذ مذعور... أكتب هذه الكلمات والأنباء تتوالى عن سقوط طرابلس وفرار القذافي وأسر أبنائه، في فاصل جديد من العزة والكرامة لهذه الأمة، ما كان ليُكتب لولا دماء طاهرة سالت كي تحيا أمة بأكملها. أكتبها وتتردد في أذني كلمات الشاعر سمير فراج في قصيدته المدهشة "الآتون من رحم الغضب": لي مفردات تشبه الآتين من رحم الغضبْ السالكين الموت دربًا يبحثون عن العربْ إن تقرؤوها تسمعوا نبض الشهيد وقد أحبّ لا تُخدعوا .. فمن القصائد حمزة وأبو لهبْ بدمي أرتل سورة البكر التي حملت بجيلْ فأجاءها جمر المخاض إلى جذوع المستحيلْ فأتت به في كفه الأحجار والثأر النبيلْ جيل سيمسح عن عيون مدينتي الليل الطويلْ حقا.. لا أحد يصنع التاريخ... إلا هؤلاء الشهداء... الآتون من رحم الغضب * صحفي مصري