أمس كنا جالسين على مائدة الطعام “ونتابع مجبرين” تقريباً في نفس الوقت الأخبار العاجلة التي تتوالى حول حادثة “شارلي إبدو”، سواء كان منها ما يتعلق بتفاصيل الحدث أو أبطاله من الضحايا والقتلة أو تصريحات الإدانة والشجب، كانت أعين الجميع تتحرك بين المائدة والشاشة ، وعلى غير العادة لم يحاول أحدٌ منا أن يغيِّر القناة الفضائية التي كانت تنقل الأخبار، وعلى غير العادة أيضاً كان الجميع يأكل ويتفرج بصمت، ونحن بالمناسبة عائلة من ثمانية أفراد ، شباب وشابات ، منهم جامعيون ومنهم من أكمل البكلوريوس، وجلسات الطعام لا تخلو في العادة من الحوارات التي تتحول أحيانا الى نوع من النقاش الحاد. فجأةً سألتهم: من يؤيد ومن يعترض؟ فهم الجميع أن القصد هو “شارلي إبدو” ورفع الجميع رؤوسهم في حركة واحدة الى التلفاز وعادوا مرة أخرى الى صحونهم، وفهمت أنهم يريدون مني الجواب. قلتُ لهم:” حسناً، أعتقد أن طرح السؤال بهذه الطريقة لا معنى له، لأن الفطرة السليمة والعقل السوي يرفضان ويدينان ويشجبان هذه الأفعال مهما كانت المبررات. والأولى إذا كان لا بد من طرح مثل هذا السؤال أن يكون الجواب بسؤالٍ مقابل : هل تؤيد أو تعارض أنهار الدم وموجات التشريد وحشود المعتقلين وأشكال التنكيل الذي مثيل له وأنواع القمع الفريد في جبته وطاغوته وتداعي وتكالب قوى البطش والإنتقام غير المبرر في سوريا والعراق وغيرها من بلاد المسلمين التي يغني عن ذكرهما البلدان الآنفان. حسناً، مرّة أخرى السؤال لا معنى له فأي فكر سقيم أو ضمير مسخ يمكن أن يقبل بتلك الجرائم والفضائع التي تهتز لها الجبال وتقشعر لها الأموات . الأمر هنا وهناك لا يتعلق بالقاتل ولا بالجريمة، انهما مقتٌ مفروغ منه ، وإنما يتعلّق بمن يستطيع أن يمنع الشر ويصد الأشرار، ثمّ تراه لا يحرك ساكنا ولا يحيط بمتحرك وكأن الأمر لا يعنيه أو كأنه يعيش في عالم آخر لا يمكن أن يصل إليه الشرر ولا أن يطاله النطح. نحن لا نستطيع مهما فعلنا أن نمنع “شارلي إبدو” ولهذا فإن رفضنا وشجبنا واستنكارنا له معنى، بينما يستطيع “شارلي إبدو” أن يمنع المأساة والمعاناة ولهذا فإن شجبهم واستنكارهم لا معنى له‘ إن لم يكن يجعل منهم شركاء في الجريمة. لقد أصبح العالم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، ومشكلة الغرب أنه لا يحس بهذه المعادلة إلا عندما يصيبه قرح أو يناله جرح. كما في الإستعمار القديم، لا زالت القوى الإمبريالية في استعمارها الجديد المغلف بالمعلوماتية والإتصالات والتكنولوجيا والفضاء المفتوح تنظر إلينا إما منبعا للمواد الأولية أو مورداً لتسويق المنتجات أو في أحسن الأحوال نواطيرا وعتالين لتلك المصالح، دون أدنى مراعاةٍ لقيمة الإنسان فينا، وهي لعمري نظرةٌ قاصرة وفكرة فاقرة تردي بصاحبها وتودي بحاملها، فقد أصبحنا مع البون الشاسع بيننا وبينهم شركاء في هذا العالم شاء من شاء وأبى من أبى، ولا يمكن لتجارة أن تربح عندما يغبن فيها أحد الطرفين. أنظروا مثلا كيف أن سعر الدولار أو السهم في بورصة نيويورك يؤثر على رغيف الخبز لدينا وكيف أننا لا نسلم من إشعاع فوكوشيما الياباني مهما بعدت بنا الديار، فهل سيفطن الغرب ذات يوم الى أن دماء الأطفال والنساء والشيوخ ستلوث ثيابهم البيضاء وأن أهات الثكالى وأنّات المحرومين وحشرجات الزنازين وتنهدات المرضى والمكلومين سوف تحمل الكوابيس الى أحلامهم الوردية”. عندما أنهيت كلامي كان الجميع قد توقف عن الأكل، إما شبعا أو نفوراً إلا أن أحدهم قال : ” نحن في عالم مجنون”