ظل الشعر العربي سجلاً للأحداث، راوية للأخبار، كاشفًا عن الأخلاق الممدوحة والذميمة. وكان من طبع العربي الفخر إلى درجة (الفشر) حتى إنه ليتمادى حين يصف نفسه بالصفات الحميدة والعالية التي يباهي به الرجال، ويتيه بها على الخصوم، وكان من هذه الأخلاق: العفة التي تاه بها كبار الشعراء؛جاهلييهم وإسلامييهم، أموييهم وعباسييهم، متقدميهم ومتأخريهم. وسأورد هنا نماذج من أشعار الفخر التي تغنوا فيها بالعفة، واعتبروها تيجانًا فوق رؤوسهم؛ فها هو عنترة العبسي، يتحدث عن عفته عن مد يده للغنيمة: هلاَّ سألت الخيل يا ابنة مالك......إنْ كنت جاهلة بما لم تعلمي يخبرك من شهد الوقيعة أنني......أغشى الوغى وأعف عند المغنم وهاهو السموأل بن عادياء العربي نزعة اليهودي دينًا،يفخر بعفة ثيابه، وعلو همته، ومنعته: إذا المرء لم يَدْنَس من اللؤم عِرْضُهُ......فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها......فليس إلى حسن الثناء سبيل تُعيِّرُنا أنا قليل عديدنا......فقلت لها إن الكرام قليل وهاهو الحارث بن عبد المطلب يضرب مثلاً في العفة، فيروى أهل السير (ولا أوثق هنا) أن عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على بعض ملوك حمير، فألطف منزلته وأكرمه، وكان عبد المطلب لا يسافر سفرًا إلا ومعه ابنه الحارث - وكان أكبر ولده، وكان شاباً جميلاً - فقال له الملك: يا أبا الحارث! أحبّ أن ينادمني ابنك. فأذن له أبوه في ذلك. وكانت زوجة الملك من أجمل النساء، فعشقت الحارث بن عبد المطلب، ودعته إلى الفاحشة، فأعلمها أنه محصن عن الزنا، ولا يخون نديمه! فألحَّت عليه، وشكت إليه غلبة الشهوة والفتنة به، فكتب إليها: لا تطمعي فيما رأيت فإنني......عفّ منادمتي عفيف المئزر فاقنَيْ حياءَك وأعلمي أني امروٌ......آبي لنفس أن يعيَّر معشري أنَّى أُزَنُّ بجارتي أو كنَّتي......أو أن يقال صبا بعرسِ الحميري ثم إنه أخبر أباه فصوّب رأيه وقال له: يا بني! إن لنساء الملوك طماحًا. فلما رأته قد عزفت نفسه عنها ويئست منه قالت: والله لا أدعه تتمتع به امرأة أبدًا، سقته السمّ! ثم ارتحل مع أبيه، فلما قدم مكة مات. وعن العفة عما في أيدي الناس كتب عروة بن أذينة بيتين في منتهى الحكمة والسمو بالنفس، وعدم إذلالها مقابل أي مقابل: لقد علمتُ وما الإشراف من خلقي......أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه ، يُعنِّيني تَطلبه......وإذا قعدْتُ أتاني لا يعنِّيني وقال أبو العتاهية: إن كان لا يُغنيك ما يكفيكا......فكل ما في الأرض لا يُغنيكا أما العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله تعالى أستاذ اللغة، وأبو عذرتها، فله قصة مع الأمير سليمان بن حبيب بن المهلب تعكس عزة نفسه، وتيهه بكرامته، فقد استدعاه الأمير يستزيره، على عادة الأمراء مع طالبي الدنيا، فأبى الخليل ، وكتب إليه: أبلغ سليمان أني عنه في سَعة......وفي غنىً غير أني لستُ ذا مال شُحًّا بنفسي؛ إني لا أرى أحدًا......يموت هزلًا ولا يبقى على حال فالرزق عن قدَر؛ لا الضعف يمنعه......ولا يزيدك فيه حَولُ محتال فغضب سليمان وقطع عنه ما كان يجرى عليه، فبلغ الخليلَ ذلك، فقال: إن الذي شق فمي ضامن ......للرزق حتى يتوفاني حرمتني مالًا قليلًا فما......زادك في مالك حرماني فبلغ البيتان سليمانَ فخجل مما فعل، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف الراتب! وقال النابغة الشيباني الأموي: غني النفس ما استغنت غنيٌّ......وفَقرُ النفسِ ما عَمِرتْ شَقَاءُ إذا استحيا الفتى ونشا بحلمٍ......وسادَ الحيَّ حالفَهُ السَّناءُ وليس يسود ذو ولدٍ ومالٍ......خفيف الحلم ليس له حياء ومن يَكُ ذَا حَيًا لم يُلْقِ بؤسًا......يَنُخْ يومًا بِعَقْوتهِ البلاَءُ وكلُّ أُخوَّة ٍ في الله تبقى......وليس يدوم في الدنيا إخاء أَصِبْ ذا الحِلْمِ منك بِسَجْل وُدٍّ......وصله، لا يكن منك الجفاء وكل جراحة ٍ توسى فتبرا......ولا يَبْرا إذا جرحَ الهِجاءُ يؤثر في القلوب له كلومٌ......كداء الموت ليس له دواء وها هو عَبيد بن الأبرص الأسدي، الشاعر الذي كان يقول إن الجن تلهمه أشعاره، يتحدث عن العفة، في شعر مليء بالحكمة: كفى زاجرًا للمرء أيامُ دهرهِ......تروح له بالواعظات وتغتدي إذا أنت طالبتَ الرجال نوالهم......فعِفَّ ولا تطلب بجهد فتنكدِ عسى سائل ذو حاجة إن منعته......من اليوم سؤلاً أن يسرك في غدِ ولا تقعُدن عنِ سعي ما قد ورثته......وما اسطعتَ من خير لنفسك فازددِ عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه......فكل قرين بالمقُارن يقتدي ولا تأملن ود امرئ قلَّ خيره......ولا تك عن وصل الصديق بِأَحْيَدِ ويقول الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني تائهًا بنفسه وأخلاقه وعفافه: غيري يغيره الفَعَال الجافي......ويحولُ عن شيمِ الكريم الوافي لا أرتضي ودًّا إذا هو لم يدم......عند الجفاء وقلّةِ الإنصافِ تعس الحريصُ وقلّ ما يأتي به......عوضًا من الإلحاح والإلحاف إنّ الغنيَّ هو الغنيّ بنفسه......ولوَ انَّهُ عاري المناكب حافِ ما كلُّ ما فوق البسيطة كافيًا......فإذا قنعتَ فكلُّ شيء كافِ وتعاف لي طمع الحريص أبوّتي......ومروءتي وفتوتي وعفافي ما كثرة الخيل الجياد بزائدي......شرفًا ولا عدد السَّوام الضافي ومكارمي عدد النجوم ومنزلي......مأوى الكرام ومنزل الأضياف شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ولقد عَرفت بمثلها أسلافي وأما عن عفة النظر فها هو الشنفرى الهجام قاطع الطريق يتحدث عن حياء وعفة أميمة فيقول في وصف لها دقيق بليغ: لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعها......إذا ما مشت ولا بذات تلفت كأن لها في الأرض نسيًا تقصه......على أمها وإن تكلمك تبلت أميمة لا يخزي نَثاها حليلها......إذا ذكر النسوان عفت وجلت إذا هو أمسى آبَ قُرَّةَ عينِه......مآبَ السعيد ِ لم يسلْ أينَ ظَلَّتِ فَدَّقَتْ وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ......فلَو جُنّ َإنسانٌ مِنَ الحُسْنِ جُنَّتِ ولقد عُرف العفاف في العرب والمسلمين بشكل كبير، فلم يك أمر الحب عندهم بالشهوة الطينية الصرفة، بل رسموا له معالم فيها كثير من الترفع والتعفف، حتى اختلط الأقوام والأعراق، وانتقلت عادات، وتغيرت أخلاق، فتبدل الحال للنقيض، حتى قال بعض الناس: كان أرباب الهوى يسرون فيما مضى، ويقنعون بأن يمضغ أحدهم لبانًا قد مضغته محبوبته، أو يستاك بسواكها، ويرون ذاك عظيمًا، واليوم يطلب أحدهم الخلوة وإرخاء الستور، كأنه قد أشهد على نكاحها أبا سعيد وأبا هريرة رضي الله عنهما! يقول أحمد ابن أبي عثمان الكاتب: وإني ليرضيني المرور ببابها......وأقنع منها بالوعيد و بالزجر ويقول أبو فراس: فيا نفس ما لاقيت من لاعج الهوى......ويا قلب ما جرّتْ عليك النواظر ويا عفتي ما لي وما لك كلما......هممت بأمر همّ لي منك زاجر كأن الحجا والصوت والعقل والتقى......لديّ، لربات الخدور ضرائر ولي فيك من فرط الصبابة آمر......ودونك من حسن الصيانة زاجر عفافُك غيٌّ إنما عفة الفتى......إذا عفّ عن لذاته وهو قادر وعن العفة عن أعراض الناس قال الشاعر: عفوا تعف نساؤكم في المحرم......وتجنبوا ما لا يليق بمسلم إن الزنا دين فإن أقرضته......كان الوفا من أهل بيتك فاعلم يا هاتكًا حُرمَ الرجال وقاطعًا......سبل المودة عشت غير مُكرَّمِ لو كنت حُرا من سلالةِ ماجدٍ......ما كنت هتَّاكًا لحرمة مسلمِ من يزنِ يُزنَ به ولو بجداره......إن كنت يا هذا لبيًا فأفهمِ وفي عفة النظر عن الجارات قال عنترة: وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي......حتى يواري جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقة ماجد......لا أتبع النفس اللّجوج هواها ويروي الأبشيهي في المستطرف: وإني لعف عن فكاهة جارتي......وإني لمشنوء إلي اغتيابها إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها......زؤورا ولم تأنس إلي كلابها ولم أك طَلابا أحاديث سرها......ولا عالما من أي حوك ثيابها وتروى بعض كتب السيرة أن امرأة ذات جمال دعت عبد الله بن عبد المطلب أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها؛ لما كانت ترى على وجهه من النور، فأبى، وقال: أما الحرام فالممات دونه......والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه......يحمي الكريم عرضه ودينه وفي نهج البلاغة كلام عن العفة أجتزئ منه: ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا......يذل به طوع اللسان فيوصف ولكنه شيء قضى الله أنه......هو الموت أو شيء من الموت أعنف فأوله سقم وآخره ضنى......وأوسطه شوق يشف ويتلف وروع وتسهيد وهم وحسرة......ووجد على وجد يزيد ويضعف وأنشد الإمام النحوي المبرد كلامًا في العفاف عن المعاصي بليغًا بديعًا: مَا إن دَعَانِي الهَوَى لِفَاحِشَةٍ......إلا عَصَاهُ الحَيَاءُ وَالكَرَمُ فلا إلى محرم مددت يدي......ولا مشت بي لريبة قَدَمُ ويتحدث إبراهيم بن محمد بن عرفة المهلبي الواسطي: كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني......منه الحياء وخوف الله والحذر كم قد خلوت بمن أهوى فيقنعني......منه الفكاهة والتحديث والنظر ونجد توبة بن الحمير يطلب من ليلى الأخيلية شيئًا يسيرًا، فقالت: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها......فليس إليها ما حييتَ سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه......وأنت لأخرى صاح وخليل وتروي كتب الأخبار أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فقال: يا بثينة: ما أرى شيئًا مما كان يقول جميل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك،قال: فكيف صادفتِه في عفته؟ قالت: كما وصف نفسه: لا والذي تسجد الجبال له......ما لي بما دون ثوبها خبر ولا بفيها ولا هممت بها......ما كان إلا الحديث والنظر [email protected]