نبارك لتونس وشعبها اكتمال العرس الديمقراطي، ونحترم خياراته في انتخاب من يمثله في البرلمان، ومن يحكمه في الرئاسة. لن أقول كما يقول البعض إن الثورة المضادة نجحت في إقصاء الثورة في تونس، ولا إن فلول "بن علي" عادوا للسلطة بعد 4 سنوات فقط، لأن في ذلك إهانة للتوانسة، واحتقارا لوعيهم، والمصادرة عليهم في حق الاختيار، خصوصا ونحن طوال الوقت نتحدث عن ارتفاع نسب التعليم والثقافة لدى المواطن التونسي عن شعوب عربية عديدة، فكيف يمكن أن نأتي اليوم ونسفه من هذا المواطن، وننزل بوعيه وثقافته إلى مستوى أقل، حتى لو اختار رموزا من النظام السابق في البرلمان، وفي الرئاسة، فلنتركه يتحمل مسؤولية خياراته، فهكذا هي الديمقراطية، تجارب تتراكم حتى يكتمل الوعي، والشعب التونسي رأى مصلحته في هذه المرحلة مع التوليفة السياسية التي تشكل حزب نداء تونس الذي حاز ثقته في البرلمان، كما رأى مصلحته في الباجي قائد السبسي رئيس هذاالحزب ليرأس البلاد ،وهو تقلد مناصب في عهدي الحبيب بورقيبة، وبن علي، ولا ننسى أن السبسي تولى رئاسة الحكومة بعد سقوط وهروب بن علي، أي في بواكير الثورة، ما يعني أنه كان متوافقا على إدارته للحكومة في الفترة الانتقالية الأصعب في تاريخ البلاد، واختيار التوانسة له ولحزبه لتحمل المسؤولية في فترة الانطلاق للدولة الجديدة بعد التأسيس الدستوري والديمقراطي لها يرجع لتقدير قائم على أن تونس اجتازت الفترة الأصعب، وهي تنتقل إلى فترة أقل صعوبة تحتاج الخبرة ورجال الدولة لإعادة البناء والتنمية والنهوض الاقتصادي، لم يجد التوانسة الفريق الحاكم خلال الفترة الانتقالية جدير بالقيام بهذه المهمة، فأسندها إلى فريق آخر، وهم لم يفقدوا الثقة فيهم تماما، بل منحوهم حقهم في التمثيل الجيد بالبرلمان، وجعلوا المرزوقي الرئيس الانتقالي الخاسر في وضع جيد كرئيس سابق ومعارض، حيث منحوه أرقام تصويت غير متوقعة، الشعب أراد تقديم فريق عمل آخر للحكم والإدارة، وحتى لا يستبد جعل فريق الحكم السابق في موقف المعارضة القوية له، فالحكومة التي سيشكلها نداء تونس يصعب أن تحوز الثقة البرلمانية، أو تعمل بسهولة ما لم تتفاهم مع حزب حركة النهضة - إخوان تونس- صاحب المرتبة الثانية، والرقم الصعب في البرلمان، والرئيس الفائز نال ما يقرب من 55,68 % من الأصوات، مقابل 44,32% للمرزوقي، أي لم يحصل السبسي على نسبة كاسحة، ولا كبيرة تمكنه من التربع على عرش الحكم، وتجاهل ناخبي منافسه، بل جعله الشعب قريبا جدا منه، وبالتالي لا يمكن أن يهمل هؤلاء الناخبين الذين يقتربون من عدد المصوتين له. الشعب التونسي لم يجعل نداء تونس ينفرد بالحكم، ويتمدد سواء في مقاعد البرلمان، أو في الرئاسة، بل فرض عليه التوافق في البرلمان، وفي الحكومة، وجعل السبسي رئيسا بنصف عدد الناخبين أويزيدون قليلا، وهذا هو الوعي، حتى لو جاز واختار رجال من النظام السابق، ولا يجوز الحديث عن نظام سابق طالما أن الإيمان بالثورة وأهدافها ومطالبها قائم، ولم يتنكر له من سيحملون الراية. درس تونس في تنفيذ مرحلة انتقالية آمنة لم تتم فيها سوى انتخابات واحدة فقط اختار الشعب خلالها مجلسا تأسيسيا ليدير البلاد، ويضع الدستور على مهل شديد حتى خرج حائزا إجماعا من ممثلي الشعب من اليمين لليسار. وهذا بعكس مصر التي بدأت مرحلة انتقالية خاطئة وأسرفت خلالها في الانتخابات بلا معنى. ودرس الإسلاميين في تونس مهم حيث اتجهوا للشراكة الوطنية، وأدركوا قيمة التوافق في المرحلة الانتقالية لإنجاح الثورة والديمقراطية عن حيازة السلطة، حزب حركة النهضة الفائز بأغلبية مقاعد المجلس التأسيسي توافق مع شركائه على الرئاسة، ورئاسة البرلمان، واحتفظ هو بالحكومة كحق أصيل له، ثم لما زادت المعارضة ضده تنازل عنها طواعية رغم أن جمهوره في الشارع كبير، وأن أكثرية البرلمان معه، وكانت النتيجة إفساد كل ذرائع من يكرهونه بالتحريض عليه، وإثارة الجماهير وشحنهم ضده، والنتيجة الأهم أنه بقى، وحافظ على نفسه، وخاض انتخابات البرلمان، وحقق نتيجة معقولة جدا في سياق ظروف محيطة به صعبة ومعقدة وغير مواتية ليبقى معارضة قوية في البرلمان، وفي يده تسهيل تشكيل الحكومة، أو تعقيد ذلك، وفي انتخابات الرئاسة رفض الترشح لها، وهذه نقلة نوعية واسعة في فهم ضرورات المرحلة، كما وقف على الحياد في الانتخابات حتى لايُحسب على مرشح دون آخر، فإذا خسر من انحاز له يكون قد تجنب احتمالات انتقام الفائز منه. الإخوان في مصر كانوا يسيرون عكس هذا الطريق تماما، وقد انتهى وضعهم بالخروج سريعا من السلطة. تونس هي درس مهم في الثورة، والربيع العربي، وفي إنجاز المرحلة الانتقالية بسلام ، وفي وضع أول بذرة على طريق أول ديمقراطية عربية ناشئة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.