تدخُل الثورة السورية يوماً بيوم بصورة أكبر على خط المشهد الأردني، لتبدو وكأنّها مسألة داخلية وليست خارجية، بين بيان يوقِّعه عشرات القوميين واليساريين من أنصار النظام السوري في عمّان، يُعلِنون فيه وقُوفهم معه "ضدّ المؤامرة" الدولية لتفكيك سوريا.. .. وفي مقابله اعتصامات لآلاف الأشخاص، وعشرات المقالات والبيانات وقِوى إسلامية وليبرالية، تقف مع الشعب السوري ضدّ النظام هناك وما يرتكِبه من أعمال ضدّ المدنيين والمتظاهرين. بالرّغم من الصّوت المُرتفع والبيانات المُتتالية التي يطرّزها أنصار النِّظام السوري من البعثيين والقوميين وبعض الكتّاب والصحفيين لدعمه، إلاّ أنّ انحياز الأغلبية الشعبية في الأردن للثورة، لا تحتاج إلى نِقاش واسع. ففي مقابل العشرات، المحسوبين تقليدياً على النظام السوري، خرج آلاف الأردنيين في اعتِصام أمام السفارة السورية في عمّان، احتجاجاً على المجازر والحِصار ضد مدينة حماه وبعدها المئات في مدينة إربد وقبلها في مدينة السلط، فيما يُبرِز الإعلام عموماً مزاجاً شعبياً مُتعاطفاً مع الثورة وساخِطاً على النظام هناك، وهو ما انعكَس حتى على حُلفائه الإقليميين، إيران وحزب الله والداخليين من أنصار التيار القومي وبعض اليساريين. فيما أشارت بعض المواقِع الإعلامية الإلكترونية إلى انتشار "الدّعاء في المساجد" في شهر رمضان وأيام الجمْع للثورة السورية ضدّ النظام هناك، ما يعكِس حجم التعاطف الشعبي مع ما يحدُث للمدنيين هناك. قراءات مُتضاربة: مؤامرة أم ثورة سِلمية! سُخونة الحدَث السوري في عمّان لا تقف عند حدود التّعاطف مع الشعب أو الوقوف مع النظام هناك، وإنْ كان المحرّك لأغلب العواطف الشعبية، هي المشاهد الدَّموية للقمْع هناك. فهنالك أيضاً رِهانات مُتضاربة على الثورة وتداعياتها الداخلية والإقليمية. أنصار حزب البعْث السوري ومؤيِّدوه يتحدّثون عن مخطَّط لصفْقة جديدة بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدةالأمريكية، بوساطة حزب رجب طيب أردوغان في تركيا، يُراد لهذه الصفقة أن ترسّم النظام العربي الجديد على أنقاض الحالي، وهو ما سيؤدِّي إلى تفكيك المنطقة. في بياناتهم، يُصرّ أنصار النظام السوري في عمّان، على أنّ ما يحدُث هو "مؤامرة" ضدّ الوحدة السورية لتفكيك الدولة، التي تمثّل الخَندق العربي الأخير في "ممانعة المشروع الصهيو- أمريكي"، ويروْن أنّ مِن حقّ الدولة أن تُدافع عن نفسها ضد العِصابات المسلّحة التي تختبِئ وراء الجماهير وتحرِّكها باستغلال "إعلام أمريكي" (المقصود هنا فضائية الجزيرة) ومصطلحات رنّانة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، على حدِّ تعبير بيان هؤلاء. في المقابل، فإنّ الكتّاب والسياسيين والحقوقيين والإسلاميين والليبراليين، يروْن فيما يحدُث في سوريا إرادة التحرّر والحرية والثورة لدى الشعب أمام نظام يستخدِم كل أدوات ووسائل التعذيب والقتْل والإضْطهاد، لقمْع هذه المطالب. ووِفقا لبيان "الحملة الشعبية الأردنية لنُصرة الثورة السورية"، وهي حملة تضُم مئات المثقَّفين والفنّانين والإعلاميين، فإنّ الثورة السورية لا تختلِف عن الثورتيْن، المصرية والتونسية، ولا يجوزُ الإختباء وراء "الدِّعايات السياسية" لتأييد نظامٍ "أيْدِيه ملطَّخة بدماء الأطفال والنساء والمدنيِّين". تغطس وراء هذه الحجج المعلنة والخطابات الإعلامية، رهانات أخرى. فالقوميون يروْن في سقوط النظام السوري خسارة كبيرة لهم. فهو آخر الأنظمة القومية و"الإشتراكية" في العالم العربي، ما يُمثِّل مؤشِّراً كبيراً على أُفُول هذا التيار وصعود التيارات الإسلامية، التي تحظى بالحضور الطَّاغي في الشارع. أمّا التيار الإسلامي والإصلاحيون في الأردن، فيروْن في نجاح الثورة السورية نُقطة انطلاق جديدة لاستئناف الثورات الديمقراطية العربية، بعدما تسمّرت قليلاً عند أبواب طرابلس وصنعاء، بسبب مُمانعة وإصرار هذين النظامين على عدم الوصول إلى السِّيناريو المصري والتونسي. ففي حال نجَحت الثورة السورية، فإنّ دمشق تُمثِّل تقليدياً إحدى العواصم العربية المهمّة والمؤثرة، فسيكون النظام الرسمي العربي الحالي أمام مطرقة جديدة للقضاء عليه، وولادة أنظمة جديدة مختلفة عن الحالية، سيكون للإسلاميين فيها دورٌ أكبر، بعدما عانَوْا كثيراً من الأنظمة الحالية. الرِّهانات الخفية والغموض الرسمي عمّان ستكون في مقدِّمة العواصم العربية التي تتأثر بتداعيات الحدَث السوري، إمّا إيجاباً أو سلباً. فالإسلاميون والإصلاحيون يروْن في نجاح الثورة عامِلاً معزّزاً لمطالبهم ب "رفع سقْف الإصلاح السياسي"، بل والمُضي في مطالبَ أكثر تحت وطْأة التأثير الكبير لسوريا الجديدة، التي سيكون للإخوان دورٌ كبير فيها. على الطّرف المقابل تماماً، يقف جزء كبير من "التيار المحافِظ". فبالرغم من مشاعِره المُعادية للنظام السوري وسياساته الإقليمية وعلاقته بالأردن، فإنّ هذا التيار يرى أنّ نجاح الثورة السورية سيخلق "الهلال الإخواني" في المنطقة، بين مصر والأردن وسوريا، بالإضافة إلى حركة حماس، وسيكون حجَر الرّحى بانتصار المشروع الإسلامي الحركي الجديد، وهو ما سيُضعف "النظام" في مواجهة "الجماعة". ويُشير أنصار هذا التيار، الذين لا يتحدَّثون علَناً في الإعلام، لكنهم مؤثِّرون في بناء المَزاج الرّسمي، إلى موقف إخوان الأردن ومصر، الذين اضطَروا إلى "التَّضحية" بمصالح حركة حماس واحتضان النظام السوري لها، لصالح "الجائزة الكُبرى" السورية، التي تُعيد هيْكلة موازين القوى والحسابات السياسية في المنطقة العربية بصورة كبيرة. في مقابل القِراءات المُعلنة والرِّهانات الخفِية والسِّجالات الساخنة، يبدو الموقِف الرسمي غامضاً تماماً تُجاه الأوضاع في دمشق، إذ لم يصدُر أي تصريح رسمي أو إيحاء وتلميح لِما يحدث في سوريا. باسم الطويسي، أستاذ الإعلام والإتصال بجامعة الحسين قراءة "مطبخ القرار": خيار تجاوزته الأحداث في البداية، شعر "مطبخ القَرار" في عمَّان بالقلق من تسريبات وتلميحات سورية تتَّهم الأردن بدعم وتدريب الثوار السوريين وبتهريب السلاح لهم عبْر الحدود الشمالية للبلاد، في ظل وجود علاقات قَرابة وتواصُل بين سكّان درعا (الحدود الجنوبية السورية) ومُدن الشمال الأردنية. هذه التَّلميحات تحوّلت إلى تصريحات في الجلسات المُغلقة، وِفق ما رَواه مسؤول أردني بارِز ل swissinfo.ch زار دمشق في بداية الأزمة وسمع من مسؤولين سوريين اتِّهامات صريحة للأردن بدعْم الثوار، مُستذكرين (المسؤولين السوريين) إيواء الأردن للفارِّين من مذبحة حماه السورية من جماعة الإخوان المسلمين عام 1982. الإشارات الأولى للموقِف الرسمي الأردني، تمثّلت في إرسال الملِك برسائل للرّئيس الأسد عبْر كبار المسؤولين، تنصحه بالقيام بإصلاحات تسبق اتِّساع حجْم الاحتجاجات الشعبية، تحتوي الضغوط المختلفة، كما هو الحال في الأردن، وهو ما يرى مراقبون أن الأسد قد استجاب لها عبْر تشكيل لجنة الحِوار الوطني وهيئة مكافحة الفساد واللقاء مع المواطنين، في استِنساخ للخطوات الأردنية في المسار الإصلاحي. الدبلوماسية الأردنية تحرّكت أيضاً في محاولة لتخفيف الضغط على النظام وطرح سيناريو الإصلاح، بدلاً من السقوط، حتى لا نجد أنفسنا أمام "ليبيا 2"، على حدِّ تعبير مسؤول أردني ل swissinfo.ch، رفض ذِكر اسمه، وهو ما منحه الملِك الأردني أولوية في لقائه الأخير مع الرئيس الأمريكي أوباما. إلاّ أنّ مسؤولين أردنيين يؤكِّدون، ل swissinfo.ch، أنّ مواقِف البيت الأبيض الحادّة من سوريا، لا تشعر بالثقة تُجاه النظام الحالي. ربما تكون هذه الخُطوات الوحيدة التي تستبطِن موقِفاً رسمياً أردنياً، ملمحه الرئيس "دفع الرئيس بشار للإصلاح السياسي وتغيير سياساته، خوفاً من سقوط النظام والفوضى أو الحرب الأهلية". هذا الرِّهان الرسمي (على أعلى المستويات)، تجاوزه الوقت اليوم ولم يعُد ممكناً مع وصول المعركة داخل سوريا إلى مرحلة الحسْم وكسْر العظم وارتفاع منسوب الضغوط الخارجية تُجاه النظام، وهو ما دفع بالخطاب الرسمي، على الأقل إعلامياً، إلى مجاراة الشارع في نقْد مبطّن للمجازر، عبْر التغطية الإعلامية، التي "تسميّ الأمور بمُسمّياتها"، كما يلاحظ د. باسم الطويسي، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة الحسين بتصريحاته ل swissinfo.ch.. ويلخِّص الطويسي حالة الغموض، فيما يسميه بالإدْراك الرسمي، بالقول "الإدراك الرسمي للأزمة السورية، ينمو ببُطء وحذر. ورغم الدبلوماسية الرسمية التي سلكت طريق تطمين النظام السوري، نلاحظ كيف تحوّلت بعض مُفردات الخطاب الإعلامي الرسمي في تغطِية أحداث الأسابيع الأخيرة مع ازدياد القمْع الرسمي وبُلوغه درجة من الإفراط في استخدام القوّة، نحو وصْف الوقائع بمُسمّياتها، التي تبدو قاسِية على مسامِع النظام في دمشق". وبصورة مغايِرة لحديث التيار المحافظ من مخاوف "دومينو الديمقراطية"، فإنّ الطويسي يرى أنّ إقامة نظام ديمقراطي مستقِر على حدود الأردن الشمالية، يخدم المصالح الأردنية بصورة أفضَل، وتحديداً المسار الديمقراطي الأردني على قاعدة "إنّ صفاً من الديمقراطيات المتلاصِقة، أكثر ضمانة للإستقرار والتنمية". في المقابل، لا ينكر الطويسي وجود سيناريوهات أخرى مُقلقة لمطبخ القرار ولما يُسميه ب "الكتلة الصامتة الكبيرة"، مع ازدياد نُذر "التدخُّل الخارجي واحتمال موجات من اللاجئين ووصمة شبح النموذج الليبي". المصدر: سويس انفو