الدولة الدينية والدولة المدنية أصحابنا الليبراليون ومعهم الماركسيون العرب على اختلاف وتناقض ما بينهم يتعمدون الخلط عند الحديث عن توصيف نظام الدولة في الإسلام بين مفهوم ومصطلح الدولة الدينية ومفهوم ومصطلح الدولة المدنية . وقد أشرنا في المقال السابق إلى أن مصطلح الدولة المدنية مصطلح لا وجود له في العلوم السياسية ولا يستعمل في الغرب كتعريف وتوصيف لهوية نظام الدولة بلفظه ، وإنما يستعمل بدلا منه مصطلح العلمانية كنقيض للدولة الدينية ، لكن النخب والرفاق عندنا يتحدثون عن المصطلح " الدولة الدينية" حديثا محملا بظلال الكهنوتية ، وعند الحديث عن الدولة المدنية يتحدثون حديثا محملا أيضا بمفهوم التفلت من الدين والتخلص منه، أي بمفهوم الدولة العلمانية والتى هى نقيض للدولة الدينية في الغرب بمعنى أن الدولة المدنية عندهم دولة لا دينية أي لا دين لها . والمنهج العلمى كان يقتضى أن ننطلق من بيئتنا نحن ونتحدث باستقلال تام وبعيدا عن الظلال التى ترتبط بالمصطلحين أو المفهومين عن الغرب . وحتى لا تختلط المفاهيم والمصطلحات هناك بعض الفروق الجوهرية نلفت نظر القاري الكريم إليها لتتضح له الصورة وتتمثل هذه الفروق فى الآتى: الدولة الدينية (الثيوقراطية ) بالمفهوم الغربي النظام فيها كهنوتى ، والحاكم في نائب عن السماء ولا يسأل عن شئ ، ولا جود للأمة ، فهو نظام يحتوى دينا ودولة وليس فيه أمة. المقابل لهذا النظام في المفهوم الغربي هو الدولة المدنية أي الدولة العلمانية نظام فيه أمة وهى مصدر السلطات،وفيه دولة نائبة عن الأمة، وليس فيه دين. فالدولة المدنية بالمفهوم الغربي نقيض للدولة الدينية أي أنها دولة علمانية لا دين لها، فماذا عن الدولة المدنية بالمفهوم الإسلامي ؟ كلمة "مدنى " بالمفهوم الإسلامي مصطلح معناه اجتماعى كما يقول ابن خلدون ، ومنها "الإنسان مدنى بطبعه" ، ومن ثم فمصطلح الدولة المدنية في الرؤية الإسلامية له مكونات تمثل الأركان الرئيسة والتى هى على الترتيب : أمة لها السيادة فهى مصدر السلطات ، وهى التى تمثل الرقابة على الدولة ، وهى التى تُوَلِى الحاكم عن طريق مؤسسات دستورية تنظم عملية الاختيار ، ففى دولة المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هناك هيئة المهاجرين الأولين ترشح للخلافة ، وتبايع البيعة الأولى ، ثم تجمع البيعة العامة من الناس ، وهذا بالضبط ما حدث في السقيفة مع أبى بكر ومع عمر ومع عثمان ومع على ابن أبى طالب ، وهذه الهيئة كانت بمثابة مؤسسة دستورية يتم من خلالها اختيار الحاكم وعزله عند الضرورة وفق الضوابط المعروفة، وفيها حاكم يمثل الدولة والنظام ، ويختار عن طريق الشورى ، وببيعة صحيحة لا مزورة وفيها شريعة والأمة مستخلفة في تطبيقها. وعند الحديث عن المؤسسات تجدر الإشارة إلى مجلس النقباء الأثنى عشرحيث طلب النبى من الوفود التى التقت به صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة أن يختاروا منهم اثني عشر نقيبا وقد كان ذلك حتى قبل تأسيس دولة المدينة ليستقر في الوجدان أن تشيكل النظام كله بعد ذلك ومنذ البداية يقوم على الاختيار الحر ، وقد اشترك النساء في هذا الاختيار حتى لايتم إقصاء أحد ، وبعد أن تم تأسيس الدولة كان هناك مجلس المهاجرين الأولين ، وكان هناك أيضا مجلس السبعين ، وقد كانوا يعقدون اجتماعهم في المسجد في مكان معين وفي أوقات محددة، وهؤلاء كانوا يمثلون أهل الحل والعقد الذين ينوبون عن الأمة في إدارة شؤون البلاد واختيار الحاكم وفرض الرقابة حتى لا ينحرف الحاكم ويتحول أو يتغول على بقية السلطات. وقد يسأل سائل وماذا عن الجانب الدينى وأين مكانه وهل يمسك بتلابيب الدولة ويقولبها وفق ما يريد ؟ ومن ثم تصبح الدولة الإسلامية ليست إلا دولة مشايخ كما يدعى البعض. ؟ ويجيبنا دستور المدينة بتوضيح الفرق بين سلطة البلاغ عن الله كسلطة مدنية لا تملك قهر الناس ولا إخضاع إرادتهم، وبين سلطة الدولة التى لها صفة الإلزام والسمع والطاعة ، وهذا التمييز الواضح لا يشكل فصلا بين السلطتين كما لا يشكل إدماجا بينهما، وإنما هو تمييز بين ما هو دينى تكون إدارته ومرجعيته بالوحي المعصوم ، وبين ما هو سياسى يدار بالشورى والعقل والمصلحة ، ومن ثم فسلطة البلاغ مهمتها تذكير الناس وترشيدهم، وهناك حشد ضخم من نصوص الوحى الكريم قد حدد الله فيها سلطة البلاغ هذه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}ق45 {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} الطور 29 {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } الغاشية 21 22 {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}النور 54 فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } المائدة 92 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } التغابن 12 {فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ } النمل 92 وحتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هنال سلطة دينية وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصى أمراءه ويقول لهم : " إذا طلب منك أهل حصن أن تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله لأنك لأنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله وحكم رسوله أم لا، وإنما أنزلهم على حكمك أنت وحكم أصحابك". تلك هى سلطة البلاغ في الدولة الإسلامية وهى سلطة مدنية بلا قهر ولا إكراه ولا إخضاع وهذا هو الجانب الدينى. نريد أن نؤكد هنا على قاعدة قال بها العلماء أنه " لا مشاحة في المصطلحات" وأن الإسلام لم يحدد بالضبط شكل النظام السياسي لدولته هل يكون ملكيا أو يكون جمهوريا ؟ المهم أن يتم اختيار الحاكم عن طريق الشورى ببيعة صحيحة من أهل الحل والعقد ، وأن يتحقق المقصود من إقامة الدولة وهو حماية الوطن وتحقيق العدل والمساواة بتكافؤ الفرص وحماية حريات الناس والحرص على تحقيق أمنهم واستقرارهم ، فتلك هى الغايات والأهداف الكبرى ، أما كيفية تحقيقها فهى متروكة لتقدير الناس وفق ما هو متاح لهم من الوسائل التى تكفل ذلك ، ولا مانع من الاستفادة من تجارب الآخرين إذا كانت صالحة للتطبيق في بيئتنا وتحقق المراد ، وللإمام الشيخ محمد عبده كلام جميل في هذه المسألة حيث قال :إذا كانت الشورى هي الواجب الشرعي فإن للدولة الإسلامية (أن توافق، في كيفية الشورى الأمم التي أخذت هذا الواجب عنا، وأنشأت له نظاماً مخصوصاً، متى رأينا في الموافقة نفعاً ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين) ويؤكد الإمام على المضامين التى تحقق العدل فيقول (إن كل شكل من الأشكال نراه مجلبة للعدل وجب علينا أن نتخذه" والمفهوم ذاته قد تحدث عنه الإمام ابن قيم الجوزية فقال : (إمارات العدل، إذا ظهرت بأي طريق كان، فذاك شرع الله ودينه ، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين). وقد ضمنت الشريعة كل هذه الأهداف العظيمة فيما يعرف بين العلماء بمقاصد الشريعة وهى : حماية النفس وحماية العرض "حماية الكرامة الإنسانية " وحماية الدين وحماية العقل وحماية المال ،. يتضح من ذلك كله أن مفهوم الدولة المدنية في المصطلح الغربي ليس هو الوصف المطابق تماما للدولة الإسلامية ، وإنما هو قريب منه حيث الأمة هى مصدر السلطات والمواطنون يتساوون في الحقوق والواجبات بلا تمييز بسبب الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية ، وتتكافأ الفرص أمام الجميع في كل قطاعات الدولة ولا يتميز فيها إلا أهل الكفاءة والاقتدار ، والجميع يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا يوجد شخص فوق والقانون مهما كان موقعه ، ويشكل أهل الحل والعقد الذين هم نواب الشعب وممثلوه جهاز الرقابة على ممارسة الدولة ومؤسساتها المختلفة وعن طريقهم يتم اختيار الحاكم عن طريق الشورى ببيعة صحيحة أو بالانتخاب الحر . ونؤكد أنه في الدولة المدنية بالمفهوم الإسلامي يتمتع الجميع بحرية العقيدة ويتقاسم الجميع مسؤولية حماية الدولة داخليا وخارجيا ، ففى الداخل يؤمن الجميع أن التعددية هى مصدر ثراء لا صراع ، ويكون الآخر المختلف معك دينا وعقيدة أخ لك في الخلق وشريك لك في المواطنة ونظير لك في الإنسانية ،واختلاف الدين لا يكون سببا في التمييز بين الناس في الحقوق والواجبات، فهل برح الخفاء وزال اللبس والخلط ؟ أم سيظل الرفاق كما تعودوا يحسبون كل صيحة عليهم وتصرخ حناجرهم دوما يسقط يسقط حكم المرشد ؟