لا يبدو أن تطوّرات المشهد التونسي تختلف كثيرًا عما تعيشه الساحة المصريَّة خلال هذه الأيام؛ فحالة المخاض العسير التي تواجه الثورة المصريَّة تتكرَّر بشكلٍ كربوني في تونس، بل إن المفردات نفسها تكاد تكون واحدة؛ فمن يحاول اكتشاف طبيعة الأوضاع في تونس حاليًا يجد المفردات المصريَّة تتصدَّر المشهد بامتياز؛ فالصراع بين الإسلاميين والعلمانيين يبدو واضحًا بشدة من خلال سعي التيار العلماني والمتمثل في الهيئة العليا لتحقيق مطالب الثورة إلى وضع العراقيل أمام إتمام الانتخابات البرلمانيَّة سعيًا منها لقطع الطريق أمام الإسلاميين، وفي مقدمتهم حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي للحصول على أغلبيَّة مريحة في البرلمان التونسي. مطالب واحدة ولا يقف هذا التشابه عن هذا الحد، فمن يلاحظ مطالب الثوار المصريين التي عكستها مليونيَّة الإرادة الشعبيَّة الأخيرة باستثناء الخاصة بالشريعة الإسلاميَّة لا تختلف كثيرًا عما يختلج في قلوب وعقول التونسيين، فهم لا يخفون رغبتهم في محاسبة رموز النظام السابق، سواء على جرائمهم في حق الشهداء أو في السطو على المال العام والتصدي لحالة الفلتان الأمني وتطهير مؤسسات الدولة التونسيَّة من فلول نظام بن علي وإصلاح الأوضاع الاقتصاديَّة واستعادة دور الدولة في كثير من المجالات، وهي مطالب تؤكِّد بما لا يدع مجالا للشك أن الثورة التونسيَّة لا زالت تواجه ولادة عسيرة لتجاوز أكثر من 60 عامًا من حكم التجمع الدستوري، سواء خلال فترة بورقيبة أو عهد بن علي. وتزيد حالة الاضطراب الأمني والسياسي التي تمرّ بها تونس خلال الأيام القليلة الماضية من غموض الموقف في ظلّ عودة التونسيين لساحات التظاهر مرة أخرى من قتامة المشهد الذي يواجه حكومة الباجي قايد السبسي، والذي دفعه لإبداء قلقله خلال الفترة الأخيرة لتوجيه انتقاداتٍ لبعض الجهات بالعمل على وضع العراقيل أمام انعقاد الانتخابات البرلمانيَّة المؤهَّلة حسب رأيه لخروج البلاد من حالة عنق الزجاجة التي تمرّ بها حاليًا. يتامى وفلول ولكن لا يبدو أن فلول ويتامى نظام بن علي لن يقبلوا بالرضوخ لتلميحات السبسي خصوصًا أن تحظى بدعم التيارات اليساريَّة والعلمانيين لن يتركوا بابًا إلا وطرقوه شأنهم شأن نظرائهم في مصر لانتزاع قرار جديد بتأجيل انتخابات البرلمان إلى ما بعد موعد الثالث والعشرين من أكتوبر مستغلِّين سيطرتهم على مفاصل الدولة التونسيَّة خصوصًا دوائر القضاء ولجنة الانتخابات، وهو ما ظهرت بشائره في انخفاض سقف التونسيين ممن قاموا بتسجيل أسمائهم في قوائم الانتخابات، حيث لم تتجاوز أعداد من قاموا بتسجيل أسمائهم حتى وقتٍ قريب أكثر من مليون مواطن، رغم أن أعداد الناخبين التونسيين تتجاوز أكثر من 7.9 مليون ناخب. ويرجح على نطاق واسع أن يستغلّ فلول بن علي سيطرتهم على عددٍ من مؤسَّسات الدولة لتصعيد الضغوط على حكومة السبسي للاستجابة لمطالبها المتتالية بتأجيل الانتخابات، عبر العمل على تعقيد المشهد التونسي بسلسلة من الاضطرابات الداخليَّة وتحريك قوى الفوضى الخلاقة من أذناب النظام السابق، بل والعمل على إعادة إنتاج الضغوط الغربيَّة من خلال العمل على تأجيج مخاوف القوى الغربيَّة من فوبيا الإسلاميين، خصوصًا أن كافة الترجيحات تشير للعبهم الدور الأهم في مرحلة تونس ما بعد بن علي. قنابل موقوتة ولن يجد العلمانيون والفرانكفونيون وفلول نظام بن علي أي صعوبة من تفجير عدد من القنابل الموقوتة في وجه الإسلاميين وعلى رأسها العمل على إلزامها بسياسات عامة لا تتقاطع مع إيديولوجيَّة هذه الحركة فقد عملت على صياغة مدونة واضحة لسلوك أي حركة سياسيَّة في تونس ما بعد الثورة على غرار المبادئ فوق الدستوريَّة في مصر، ومنها التعامل مع ملف السياحة في تونس والعلاقات مع الدولة العبريَّة "التطبيع مع إسرائيل" وفضلا عن ضمان المحافظة على حقوق المرأة في تطبيق حرفي لميراث حكم بن علي وبورقيبة في هذا الصدد. ويراهن هذا التيار على ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهم يريدون توريط الإسلاميين في تبنِّي مواقف متشددة من هذه الملفات حتى يستغلوا هذا الأمر لتسويق خطورتهم على مستقبل تونس ومخاطرهم على الاستثمار والمحافظة على تونس كمقصد سياحي أمام الغرب، وفي المقابل يمكن استغلال أي مواقف متساهلة حيال هذه الملفات لتشويه صورتهم أمام ناخبيهم والزعم بقبولهم تقديم تنازلات سعيًا لتسويق أنفسهم دون الوضع في الاعتبار ثوابتهم الدينيَّة. خطاب عاقل ولكن مساعي اللوبي الفرانكفوني لم تحققْ حتى الآن ما كانت تصبو إليه، إذ تعامل حزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي بنهج براجماتي مع هذا الاختبار الصعب، وانتهج سياسة إمساك العصا من المنتصف للخروج بأقل الخسائر من هذا الاختبار، عبر تأكيده بسعي الإسلاميين للحفاظ على تونس كأكبر مقصد سياحي، ولكن بالمحافظة كذلك على التقاليد الخاصة بالشعب التونسي، فضلا عن تأييده لحصول المرأة على كافة حقوقها، غير أنه رفض أي فصل للدين عن الدولة أو تقديم أي تنازلات بخصوص التطبيع مع إسرائيل، برفضه هذا الأمر جملةً وتفصيلا، وهو أمر حاول هذا اللوبي البناء عليه لإشعال غضب الغرب على الإسلاميين التونسيين، لكن هذه المساعي لم تحققْ أهدافها حتى الآن على الأقل. تحالف واسع لم يكتفِ الإسلاميون طوال الفترة الأخيرة بتحقيق بعض الانتصارات في انتخابات فرعيَّة مثل نقابة المحامين والهيئة التأسيسيَّة، إذ أعلن الإسلاميون كذلك انخراطهم في تحالف مع عدد من الأحزاب تنتمي لكافة ألوان الطيف التونسي، وفي مقدمتها أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية والإصلاح والتنمية وحركة الوحدة الشعبيَّة وحركتا الديمقراطيين الاشتراكيين والشعب الوحدوية، وهو تحالف نظر إليه الكثيرون في إطار رغبة الإسلاميين في تدشين جبهة عريضة تقطع الطريق على احتمال عودة فلول بن علي الذين نجحوا خلال الفترة الأخيرة في الانخراط في عدد من الأحزاب للعودة للساحة السياسيَّة بثوب جديد. نفوذ كبير والواقع أن الإسلاميين في تونس على أعتاب تحدٍّ ضخم، شأنهم شأن نظرائهم في مصر، في ظل تعرُّضهم لحملة ضارية من التشويه من قِبل القوى العلمانيَّة والفرانكفونيَّة، وهذا ما يتطلب منهم تبني مواقف مرنة تحافظ على شعبيتهم في أوساط الرأي العام، وتعمل على الترويج لهم كشريك ذي مصداقيَّة للقوى الغربيَّة التي تعدّ الداعم الأول سياسيًّا واقتصاديًّا لتونس، خصوصًا أن هذه القوى لا زالت تتمتع بنفوذ كبير داخل الساحة التونسيَّة بشكلٍ يجعل استفزازها من قبل الإسلاميين تصرفًا غير حكيم، فضلا عن أن إعلان حزب النهضة عدم سعيه للحصول على منصب الرئيس أو الوزير الأول قد خلق حالة طمأنينة من في أوساط حلفائهم من عدم رغبتهم في الهيمنة، بل والتعاطي بإيجابيَّة مع مساعيهم لإبرام تحالف وطني تستطيع به البلاد تجاوز حالة عنق الزجاجة التي تعاني منها حاليًا. رؤى واضحة لذا فالإسلاميون مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في تونس مطالبون بضرورة تقديم رؤى واضحة لا تقبل أي تشكيك، لا سيَّما فيما يتعلق بقضايا علاقة الدين بالدولة والصلاحيات الخاصة بالرئيس والبرلمان والموقف من ملف السياحة وقضايا المرأة، وهي مواقف قد تجعل فرصهم كبيرة في تجاوز العقبات التي تضعها القوى العلمانيَّة والفرانكفونيَّة لضمان عدم اكتسابهم أرضيَّة انتخابيَّة تؤمن لهم دورًا سياسيًّا يوازي شعبيتهم وأرضيتهم في الساحة التونسيَّة بعد عقود من التهميش والإقصاء في عهدي بورقيبة وبن علي، رغم أن هذه السياسات لم تنجحْ رغم كل شيء في استئصال شأفة الإسلام من الساحة التونسيَّة، ولم تخلق حالة انفصام بين الإسلاميين والشعب التونسي، والذي يقترب من تحويلهم عبر صناديق الاقتراع لأكبر فصيل سياسي في تونس الثورة