يشهد تاريخنا قديمه ووسطه وحديثه على السواء ، أن أكبر عقبة وقفت فى وجه تقدم البلاد وتطورها السياسي، هي النخبة المصرية ... لماذا ؟ لأنها ببساطة تعانى من مرض "عصر الهضم المعرفي" ، منذ اطلعت على أمهات الكتب فى شتى فروع المعرفة الإنسانية ، وانكبت على إلتهام ما فيها من أفكار ونظريات بغير "مضغ"، مما صعب عليها ابتلاعها وهضمها، وحال بينها وبين إعادة تقديم الصالح منها للجماهير بصورة مبسطة وبغير إسفاف. ولهذا اختلطت على غالبيتها، الكثير من المفاهيم الفكرية والسياسية والفلسفية التي نقلتها من مصادرها، ولم تخضعها "لفلترة" عقلية ونقدية معاً، وظلت واقفة أمامها جامدة، لا تستطيع أن تأخذ منها، أو أن تضيف إليها، وكأنها وحى مقدس ممنوع الاقتراب منه أو الاعتراض عليه، وتناست نخبتنا الموقرة، أن كل ما أخرجه أهل الفكر والفلسفة على مر العصور من آراء ونظريات إنسانية، كانت نتاج عقل بشرى، يؤخذ منها ويرد عليها، وأنها قابلة للدحض والنقض، وكانت تعبر عن العصر الذي كتبت فيه، وفى إطار الظروف التي عاش فيها من أبدعها. أضف إلى ذلك أن النخبة المصرية لم تقنع فقط بالتقاعس، عن القيام بدورها الطليعي والتنويري المنوط القيام به تجاه أمتها، حتى تستخلص وتستعيد حقوقها من مغتصبيها، إما بالثورات الشعبية، أو عن طريق مساعدة الشعب فى الضغط على حكامه الطغاة وذلك حسب أحوال البلاد، بل زادت النخبة المصرية الطين بلة، حين شاركت بهمة فى تضليل وتسطيح وعى الجماهير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لصالح الحاكم الطاغية، قيامها بترديد العديد من المقولات والأفكار والنظريات السياسية، التي سبق وضعها كبار مفكري الغرب وفلاسفته عن الطغيان الشرقي منذ القرن الرابع قبل الميلاد، والتي لم تخلوا فى مجملها من النظرة العنصرية التي التفتت عنها العقلية النقدية لغالبية للنخبة المصرية التي انبهرت بها ورددتها مثل الببغاوات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تلك المقولات المتعالية والعنصرية التي تحط من طبيعة شعوب الشرق – ونحن منهم - والتي تزعم أنهم بطبيعتهم عبيد يعشقون الطغيان، ويستمتعون بالقسوة ، وتعودوا أن يخلقوا الطاغية إذا عز عليهم وجوده، لكونهم لا يعرفون فضيلة قيم الحرية والعدل والمساواة ،ولا يفرقون بين "الديمقراطية" التي هي حكم الشعب نفسه بنفسه، و"الفوضوية" التي تعنى أن يكون المواطن حراً ومتحرراً من الخوف، وغير مقيد بأي قيد، وأن يتساوى فى منظومتها الفرد الصالح مع الفرد الطالح، وأن الفرد لا يعيبه عدم الانتماء للأمة أو العبادة أو المركز الاجتماعي، لكونه صاحب العرش على نفسه ، و من ثم لا غضاضة أن يعطى أذنه وعقله لأي خطيب مغرض، أو مشعوذ أفاق ويتبعهما ، ولو كان ذلك على حساب كيان الدولة وتقدمها. وعليه فقد أعطت النخبة المصرية لنفسها الحق ، فى أن تكتفي بالجلوس فى برجها العالي ، ولا تنزل للجماهير لتخالطها وتتحاور معها حتى تستطيع أن ترفع وعى الشعب، وتدفع عنه الجهل والأمية، وتتوحد معه فى الوقوف ضد النظام الحاكم المستبد ، بل وصل الأمر بها أن ذهبت - وتلك الطامة الكبرى - للحاكم الظالم لتعرض عليه مواهبها فى أن تقول وتقنع الجماهير بالشيء وضده حسب رغبة الحاكم ،خدمة له وتزلفاً لطغيانه، وتبريراً لسياساته وقراراته الخاطئة، وأنها كذلك تستطيع غسل "مخ" الجماهير وتزيف وعيها وإقناعها بأن "الديمقراطية" رجس من عمل الشيطان ، وأن مصر بحاجة ماسة لحاكم مستبد مستنير، يعيد لها الاستقرار والأمن ويخلصها من الفوضى. لذلك كانت نخبتنا وإلى أن يشاء الله، هي سبب نكبتنا وتأخر تطورنا السياسي، بسبب نظرتها المتدنية لطبيعة شعبنا، ولتخوفها الدائم من أن تأتى الفرصة لهذا الشعب ، ليحكم بنظام ديمقراطي حقيقي ، يستطيع أن يضع نهاية لانتهازيتها وخيانتها لحاضر ومستقبل شعبها ، و سعتئذ سوف تحرم من كل ما تكتسبه من امتيازات مادية ومعنوية نظير خدماتها المشبوهة لولى النعم الذي أسقطه شعبه. وللحديث بقية