لم يكن الإسلام بعيدا عن أجندة الثورة التي قادها جمال عبد الناصر في يوليو منذ ما يقرب من 60 عاما. بل كان الإسلام في القلب من هذه الأجندة التي رسخت فيها مبادئ الثورة رسوخ الصخر في جبل شاهق .. والذي يمعن النظر في المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة نبراسا لها منذ اليوم الأول لقيامها . سيجد أنها من أولها إلى أخرها مبادئ إسلامية ما كان لزعيم الإخوان نفسه أن يجد أفضل منها لثورة كان في إمكانه الإعلان عنها. فالقضاء على الإقطاع ، والقضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي .. كل مبدأ من هذه المبادئ كان من تلك التي دعت إليها حركة الإسلام السياسي منذ نشأتها وحتى اليوم . حتى إن الاسم الذي اختارته "جماعة الإخوان المسلمين" لأول حزب سياسي ينشأ في كنفها لم يكن بعيدا بل كان تلخيصا لكل هذه المبادئ في عبارة واحدة (الحرية والعدالة)، ولهذا فإنني بعد أن استغرقت في قراءة قصة الخلاف الشهير والداني بين عبد الناصر والإخوان أيقنت بأن الخلاف بينهما كان خلافا سياسيا ولم يكن أبدا خلافا دينيا ، أي إنه ظل محصورا في إطار الشريعة وطريق الوصول إليها . ولم يكن ابدا حول الإقرار بها أو إنكارها .. وقد دلل عبد الناصر على ذلك في إجابته على سؤال لأحد الصحفيين البريطانيين حين سأله لماذا لا تقول بأنك تطبق تجربة إسلامية في الحكم ما دمت تؤمن بالاشتراكية العربية المستندة على أسس إسلامية ؟ قال عبد الناصر في إجابته عن هذا السؤال :"إن الحكم والسياسة مجرد تجربة إنسانية لا تخلو من احتمالات الخطأ. فإذا فشلت سيقولون إن عبد الناصر هو الذي فشل، إنني أريد أن أتحمل مسئولية الفشل – فيما لو حدث – وحدي ولا أحمله على الإسلام . وأمامنا تجربة محمد على جناح في باكستان التي فشلت هناك فقال البعض إن الإسلام هو الذي فشل وليس محمد على جناح، فلماذا – كما يقول عبد الناصر – أعرض الإسلام لمثل هذا النقد الذي ينال منه بكل تأكيد."؟! هكذا كانت غيرة عبد الناصر على الإسلام هي الدافع للنأي به عن كل ما قد يعرضه للهجوم أو النقد من جانب خصومه المتربصين به . وظل طوال الوقت حريصا على أن يجنب الإسلام ذلك بوضعه في محل الاختبار والتشكيك. وفي أحد خطاباته الشهيرة سخر عبد الناصر من الأغنياء الذين هاجموه بسبب انحيازه للفقراء علي حسابهم . قال عبد الناصر :"يقول الأغنياء إن الفقراء لهم الجنة . وتساءل عبد الناصر في سخرية لماذا لا يتنازل الأغنياء عن جزء من دنياهم للفقراء مقابل أن يعطيهم الفقراء بعضا من نصيبهم في الجنة"؟! بهذه العبارة لخص عبد الناصر مفهومه للإسلام كما كان يعتقده . فقد بعث الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) بالعدل والمساواة . وليس بالظلم والتمييز . فالإسلام يرفض – كما قال عبد الناصر – أن يكون الغنى إرثا للأغنياء، والفقر إرثا للفقراء .. والمسئولية الأولى للدولة الإسلامية هي رعاية الفقراء والانحياز لهم . وليس رعاية الأغنياء والعمل لصالحهم . هذه هي الدولة الدينية – الإسلامية – كما فهمها عبد الناصر وعمل لها حتى مات . ولهذا لم يكن غريبا أن تكون مبادئ ثورة يناير التي نعيشها اليوم هي نفسها المبادئ التي دعا لها عبد الناصر وبذل في سبيلها التضحيات طوال عمره القصير ."حرية وعدالة اجتماعية". والذين يدعون لقيام دولة دينية في مصر – بمفهوم عصري – لن يجدوا أمامهم غير تجربة عبد الناصر ليعيدوا إنتاجها ويردوا لها اعتبارها بعد أن نالها ما نالها علي أيدي الغوغاء والجهلة وأعداء الحق والعدل رغم أنه ظل طوال عمره حريصا عن أن ينأي بالإسلام عن مواضع التشكيك والهجوم . ولعل السؤال الأهم الآن كيف أكره أو أهاجم زعيما اعتبرته أمريكا وإسرائيل عدوهما الأول، وهل أكون وطنيا مخلصا ومحبا لوطني وأنا على هذا الموقف من ذلك الرجل؟!