مثلما للاستبداد طبائع، كما قدَّم ذلك المفكر العربي الراحل، عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه الرائع، فإن للحرية طبائع أيضًا، وما نجده من إبداع وتميز وتألق في العالم الغربي فهو ناجم عن الحرية الحقيقيَّة، وليست المشوَّهة. ومثلما ينعكس الاستبداد على أخلاق البشر وسلوكهم وعلى المعرفة والثقافة والعلاقات بين الناس وعلى المجتمع عمومًا، فإن للحرية تأثيرًا مناقضًا لذلك تمامًا. هذه المقدمة هي مدخل مهمّ، في ظني، للاقتراب من الوثيقة التاريخيَّة التي أصدرها شيخ الأزهر مؤخرًا حول رؤية هذه المؤسَّسة الدينيَّة العريقة، التي تراجعت كثيرًا خلال العقود السابقة، تحت وطأة هيمنة الدولة عليها وتحجيمها وإضعافها. اليوم يعود الأزهر في زمن الثورة الديمقراطيَّة العربيَّة ليقدِّم لنا أول الخيرات من خلال وثيقته التاريخيَّة حول مستقبل مصر، وتتضمن رؤيته لمفهوم الدولة المدنيَّة والديمقراطيَّة والتعدديَّة والدور الحضاري لمصر وجملة من الأسئلة الكبرى المطروحة في السجالات الداخليَّة المصريَّة اليوم. الوثيقة متقدمة كثيرًا على الفقه الإسلامي السني المهيمن حاليًا، بل وحتى على خطاب الحركات الإسلاميَّة عمومًا، وفيها تأكيد على استلهام التراث الإصلاحي للإمام محمد عبده وشيوخ الأزهر الكبار، وتأكيد لأهميَّة تقديم وصفة توافقيَّة للعلاقة بين الدين والدولة واستعادة دور الأزهر في الحرية والنهضة. أهمّ ما تضمَّنته الوثيقة على الإطلاق تعريفها لنظام الحكم المطلوب وهو "الدولة الوطنيَّة الدستوريَّة الديمقراطيَّة الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمَّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونيَّة الحاكمة، ويحدِّد إطار الحكم ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة..". ثمّ تعرّف الوثيقة طبيعة النظام الديمقراطي بالقول "اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحرّ، الذي هو الصيغة العصريَّة لتحقيق مبادئ الشورى الإسلاميَّة، بما يضمنه من تعدديَّة ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخِّي منافع الناس ومصالحهم العامَّة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون -والقانون وحده- وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية وحرية الحصول على المعلومات وتداولها..". على العموم؛ هذه الوثيقة ليست نقطة تحول فقط في مسار الأزهر ودوره المنشود، دينيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، بل هي ثورة في الفقه السني، وتأتي هذه المرة من رحم المؤسسة الدينيَّة التقليدية، لتؤكِّد على تمازج الإسلام مع النظرية الدستوريَّة والنظام الديمقراطي- المدني، وعلى تداول السلطة والتعدديَّة، وقبول الآخر، وعلى مبدأ "المواطنة" كأساس للعقد الاجتماعي الوطني. وثيقة الأزهر تقطع الطريق على التحالف التاريخي الوثيق بين الأنظمة العربيَّة والمؤسسة الدينيَّة الرسميَّة أو الحركات المتحالفة معها، والتي سوَّغت الاستبداد ومنحته شرعية ممهورة بالفتوى الفقهيَّة وبأحكام الدين، وكبَّلت الشارع بقيود فقهية وثقافيَّة كانت بحد ذاتها سدًّا منيعًا ضد قيام الشعوب العربيَّة بالدفاع عن حقوقها ومصالحها، وضد تشكُّل ثقافة سياسيَّة إيجابيَّة متأسِّسة على مفاهيم المواطنة والمسئوليَّة والحقوق والواجبات. خطوة الأزهر مهمَّة جدًّا، وتشكِّل نقطة تحول في مسار هذه المؤسَّسة العريقة، تبشِّر بإمكانيَّة استعادة دوره، لكن في الاتجاه الصحيح، سياسيًّا، وهو باكورة الخير مع زمن الثورة الديمقراطيَّة العربيَّة. الدين إما أن يكون حقنًا لتهدئة وتسكين المجتمعات وتسويغ الاستبداد والتسلط والفساد، وبث روح السلبيَّة فيها، وإما أن يكون عامل صدام سياسي دموي ومعول للتفرقة الطائفيَّة والعصبيَّة السياسيَّة وإما أن يكون رافعة للنهضة والديمقراطيَّة والسلم الأهلي والتقدم العمراني، وهذا الخيار الثالث الذي يمكن أن نلمس روحه وتفاصيله في وثيقة الأزهر الجديدة. الأزهر غدًا سيكون منارة للتقدم والنهضة والمعرفة بإذن الله، وتلك نتيجة طبيعية لعصر الحرية والكرامة. المصدر: الاسلام اليوم