يعد ميدان الدعوة الإسلامية أولى الميادين العلمية عند المسلمين بتطبيق مفاهيم الجودة الشاملة، ذلك أنها أفضل مهمة إنسانية للمسلم بنص القرآن، وهي المهمة الأولى للأنبياء والمرسلين، وعلى رأسهم سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن الدعوة ليست بأقل من العملية التعليمية والتربوية التي غزتها معايير الإدارة الحديثة منذ عشرات السنين لنراها في النهاية مجالا مؤطرا محدد المعالم واضح المنهج، وثمة دوافع أخرى – خاصة بالعملية الدعوية ذاتها- تقتضي المسارعة إلى إدخال الجودة في المجال الدعوي من أهمها: أولا:عالمية الدعوة، فإن دعوة الإسلام لا تقتصر على صنف من الناس دون غيرهم فهي موجهة إلى الناس كافة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[ سبأ: 28]، ولا ريب أن الناس وهم ركن أصيل من أركان الدعوة متباينون، وتوجيههم مع تباينهم يعتمد التركيز فيما يوافق أحوالهم حتى يتم تحقيق أهداف الدعوة، لأن تفقد رضى المستفيد في مجال الجودة غاية معظمة، تسعى نظم الجودة إلى تحقيقه، مما سيعود على العملية الدعوية بنفع عظيم، حينما يتبين للداعية، ومن خلال مواصفات معينة، واشتراطات دقيقة، كيف يكون الخطاب الدعوي متوافقا مع حاله. ثانيا: تعتبر الجودة الشاملة -باعتبارها وسيلة أساسية من وسائل انضباط الأداء الدعوي بصورة علمية ومنهجية- إحدى مكونات (البصيرة)، التي يجب أن تكون المنظومة الدعوية ماضية على دربها، قال تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ يوسف: 108فالبصيرة هي: قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة ([1]) ولا شك أن الجودة الشاملة استصحاب للخبرات الإدارية، والنظريات العلمية في انضباط العمل، وترك الإهمال والعبث، حتى قال البقاعي﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾؛ أي: حجَّة واضحة من أمري، وترك التقليد الدالِّ على الغَباوة والجُمُود؛ ومن حاصِل أقوال أهلم العلم يتبيَّن شمولُ كلمة (بصيرة) على معانٍ عظيمة من: العلم، والمعرفة، والتحقُّق، واليقين، والبيان، والبرهان العقلي والشرعي، والعبرة، والحجَّة، والفِطنة، والقصد، والثَّبات على الدين، وكلُّ هذه المعاني وغيرها ممَّا ينبغي أن يتحلَّى به الداعية إلى الله ويستَعلِي به في دعوته،ذلك أن الداعية في طريقه إلى النجاح له يلزمه سلوك نوعين من البصيرة : الأولى: وهي البصيرة الإيمانية المتعلقة بوضوح رسالته ورؤيته في الإصلاح، بمستوياتها المختلفة، وهي المعبر عنها عند العلماء، باليقين والحجة والبرهان والعلم والهدى والحق. النوع الثاني : وهي البصيرة الكونية المرتبطة بسنن النجاح الماضية بين الخلق، فهي بمثابة المعادلات الحسابية في دقتها، خاصة وأن مبادئ الجودة التي اتفق عليها المهتمون بالجودة الشاملة في الإدارة، هي مبادئ أساسية في العمل بوجه عام، على أن تربط في جميع أبعادها بالخصوصية الدعوية، تقول الدكتورة فريدة زمرد( إن بلوغ الإنسان مرتبة البصيرة لا يكون إلا بأسباب تعينه على ذلك، وهي مجملة في أمرين: الوحي والكون، فالوحي كما أشرنا مصدر البصائر: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) سورة الجاثية/ الآية: 19 ويدخل ضمن هذا العامل المرتبط بالكون: النظر في السنن الإلهية التي تحكم الخلق كسنن النصر والهزيمة التي تشير إليها الآية الكريمة وهي تحث أولي الأبصار للاعتبار بها: (قَدْ كَانَ لَكُمْ اَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ تَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الاَبْصَارِ) [سورة ال عمران/ الآية: 13) ([2]) ثالثا: تعد معايير الجودة وحسن الأداء، من أجلى صور الحكمة،التي يجب توفرها في المحتوى الدعوي قال تعالى (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) النحل: 125، إذ الحكمة في حقيقتها: (إصابة الحق بالعلم والعقل) ([3])، وقيل: ( عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم) ([4]) ولا شك أن من أهم مظاهر الحكمة: انضباط العملية الدعوية بمعايير الاجادة والتحسين والترشيد. رابعا: الجودة في الدعوة تعني: مراجعة معايير ضمان الجودة بصورة مستمرة ودائمة، وهذا عينه مطلب ضروري لاستقامة المنهج، ومطابقته للواقع،نظرا لتغير أحوال المخاطبين والمدعويين، وكم تعاني الدعوة حاليا من استصحاب نماذج تاريخية، لم تعد مناسبة لواقع المخاطبين مضى عليها عشرات؛ بل مئات السنين، ولو أن العملية الدعوية تخضع لمعايير الجودة المستمرة ومراقبتها لاستبعدت تلك النماذج وتم الاستغناء عنها. إصلاح الدعوة واجب كفائي: فلا شك إن إصلاح الدعوة، وانتشالها من التبسيط الذي وضعها فيه الملتحقون بها، والمنتسبون اليها، في العصور المتأخرة والعفوية التي تمارس بها، ووضعها على طريق الرشد،لهو واجب كفائي على الأمة، لا تبرأ ذمتها من أدائه إلا إذا تحقق، ولا شك أن هذا الواجب لا يتحقق إلا من خلال النخبة الواعية المدركة لحجم الكارثة التي تعيشها الدعوة بصورتها المعاصرة، يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة عن أهمية الفرض الكفائي"ولعلنا نسارع إلى القول: إن تراجع الأمة المسلمة وتخلفها، على الرغم مما تمتلك من الإمكان الحضاري، سواء في ذلك معارف الوحي، في الكتاب والسنة، والإفادة من خير القرون وما حملته التجربة الحضارية التاريخية في التنزيل على واقع الحياة، يعود إلى حد بعيد إلى انكماش وانحسار وغياب الفروض الكفائية، التي يعد استكمالها وتوفيرها وتطويرها من صلب العلوم الشرعية، بل لعل البعض يراها أكثر أولوية من الفروض العينية، فيما وراء العبادة وأحكام الحلال والحرام؛ لأنها واجبات ومسؤوليات جماعية تخص الأمة كلها، وترتبط بتحقيق مصالحها، وتوفير كفايتها، وصناعة مَنَعَتِهَا"([5]) ويقول الدكتور عبد الكريم بكار "إن قضية الدعوة الى الله تعالى ليست شأنا خاصا لفئة محدودة من الناس؛ ولكنها من القضايا المركزية لهذه الامة، فنحن أمة رسالتها الاساسية في هذه الحياة، هداية الخلق ونشر أعلام الحق والعدل والخير وتعبيد الناس لقيوم السماوات والارض، كما أن إصلاح المجتمعات الإسلامية وتخليصها من حالة الوهن والغثائية من الهموم العامة لمعظم أبناء أمة الإسلام على اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم" ([6])
([1]) المعجم الوسيط (1/59) . ([2])مفهوم البصيرة للدكتورة فريدة زمرد موقع الرابطة المحمدية ([3])المفردات في غريب القرآن ص 126. ([4])لسان العرب مادة (حكم) 15 / 30. ([5])لسان العرب مادة (حكم) 15 / 30. ([6])مقدمة كتاب (تطوير العلم الشرعي) من سلسة كتب الأمة ص11