هل يمكن تصور أن الرئيس عبد الفتاح السيسي غير مدرك بأن كتلة التأييد التي أتى على أكتافها في الشارع تنحسر بسرعة عنه الآن وتتآكل ، وبعضها انقلب عليه بزاوية 180 درجة ، وأن حالة الغضب المكتوم أو التململ أو فقدان الثقة بالمستقبل معه أصبحت تترسخ وتتسع مع الوقت ومع الغموض ومع التخبط ومع تزايد القبضة الأمنية الغشيمة التي تطيح بأي شيء أمامها ، السيسي حتى الآن ليس له فريق رئاسي ، وبالتالي فالتصور البديهي أن فريق "الخبراء" الذي يصنع الرؤية أمام السيسي هو أجهزة المخابرات بشقيها ويليها جهاز الأمن الوطني ، وهذا ما يفسر ما لاحظه كثيرون ، وكتبته هنا أكثر من مرة ، أن السياسة ماتت في مصر وأن المؤسسات الأمنية هي التي تدير المشهد كله ، وتقريبا بجميع تفاصيله ، من الاقتصاد للسياسة للإعلام للثقافة للدين للتعليم لغير ذلك ، وهذا خطير جدا ، لأن هذا هو مفتاح الصدام الصفري مستقبلا بين الكتل المعارضة وخاصة أجيالها الجديدة وبين السلطة ، هذه الملاحظة أكد عليها الصديق عبد الله السناوي في مقاله أول أمس عمن أسماهم "الكتل القلقة" ، ويعني بها الأحزاب والقوى السياسية التي تضامنت مع السيسي في 30 يونيو لإطاحة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي ، وهي الأحزاب والكتل التي تشعر بغصة الآن من مسار الأحداث ، وتقترب من التسليم بأن رهانها كان فاشلا ، السناوي وهو من الناصريين الداعمين بقوة للسيسي يصف حال الإحباط ويقول : (لا رؤية سياسية تساعد على التماسك ولا حسم لما هو ضرورى من انحيازات وخيارات تنتصر لتضحيات المصريين فى طلب الحرية والعدل) ، ويضيف : (إن نخبا فاعلة تؤثر الصمت تقديرا لخطورة اللحظة المصرية لكنها تتململ وقد يرتفع صوتها تاليا بأعلى من أى توقع بما يقلب المعادلات) ، ويوضح الأمر أكثر بقوله : (شيء من الشك فى صحة الرهان بدأ يتسرب، وهذا مؤشر لما قد يحدث تاليا ما لم تتدارك أسبابه) ، ويضيف في شرح حالة التململ : (كتلة التململ الحرجة قد تخرج عن صمتها الطوعى على أى أخطاء تجرى لإتاحة الفرصة كاملة أمام الرئيس للتصرف فى الملفات الصعبة إلى الجانب الآخر بجوار كتلة النار، وهذا مشروع انهيار محقق للنظام والمجتمع معا، فالبلد لا يحتمل اضطرابا جديدا أو تصدعا آخر فى بنية دولته التى تعافت بالكاد) ، وهو يقصد بكتلة النار الاحتجاجات الصاخبة للإخوان وأنصار الرئيس الأسبق محمد مرسي التي تثير موجة عنيفة وخطيرة في الشوارع والجامعات وتهدد جميع المصالح تقريبا بلا استثناء ، وهو يشير إلى أن استمرار هذا الإحباط قد يؤدي إلى تقارب بين الكتلتين وصناعة موجة ثورية جديدة تطيح بكل شيء ، أو حسب شرحه هو في النهاية : (هذا كله كلام فى السياسة طبيعى ومشروع وغيابه يفتح أبواب جهنم على احتمالات أن تفلت الأزمات من عقالها وتقترب كتلة التململ الحرجة من كتل النار المشتعلة فى مصر والمنطقة أو أن تنقلب المعادلات كلها وتتهدد الدولة فى وجودها .. إذا كان هناك من لا يريد أن يصدق فالمسألة قد لا تستغرق شهورا) . رؤية السناوي نقلتها بصيغة أخرى الزميلة دينا عزت في تقرير مهم لها نشرته في الشروق ، قالت فيه نقلا عن مصدر وصفته بالمطلع رفض الكشف عن اسمه (أن الرئيس عبدالفتاح السيسي تلقى مؤخرا ما وصفه ب«تقرير مطول» حذر من تزايد درجة الغضب بين دوائر سياسية عديدة شاركت في تحالف 30 يونيو .. وحمل التقرير رسائل تحذيرية من شخصيات سيادية وأخرى سياسية من «المشاكل الكبيرة» الناجمة عن الإفراط فى استخدام أدوات الأمن لمواجهة كل أشكال الغضب والمعارضة السياسية سواء كانت من قطاعات إسلامية أو غير إسلامية ، وبحسب ذات المصدر فإن ما يتلقاه الرئيس من تقارير يكشف عن خلافات قوية بين الدوائر الأمنية العاملة مع مؤسسة الرئاسة، وأحيانا داخل المؤسسة الأمنية الواحدة حول المدى الذى يمكن الذهاب اليه فى الاعتماد على الأداة الأمنية فى مواجهة المعارضة السياسية) . في التقرير ذاته قال المصدر أن (الرئيس يعلم أن هناك غصة فى حلق الكثيرين من حلفاء 30 يونيو، خاصة من الشباب الذين كان بعضهم أعضاء فى اللجان التنسيقية ل30 يونيو، وهم الآن فى السجون دون تهم واضحة أو بتهم تتعلق بخرق قانون التظاهر الذى وعد الرئيس أكثر من مرة بمراجعته، ولكنه أجل هذه الخطوة بناء على نصيحة شخصية أمنية رفيعة تحظى بثقة رئاسية كبيرة ، .. والرئيس تلقى نصيحة «أمنية» بتأجيل انتخابات البرلمان حتى النصف الثانى من العام المقبل ريثما يتم الانتهاء من تخطيط المشهد السياسى بما يضمن برلمانا مواليا بالكامل) ، ثم ينتهي التقرير إلى القول نقلا عمن أسمتهم "مصادر اقتصادية وأخرى سيادية" : (إن هناك حالة من التحسب حول إمكانية المضى قدما فى اتخاذ المزيد من خطوات الإصلاح الاقتصادى فى ظل حالة القلق السياسى والتوجس المجتمعى) ، بمعنى أن أي حديث عن مشروعات اقتصادية أو تنموية معرض للفشل والتعثر إذا ظلت الحالة الأمنية والسياسية المضطربة الآن على حالها . القلق والتوجس تجاه اللحظة الحالية ، والإحساس بالتخبط وغياب الرؤية لدى القيادة السياسية ، وضعف الثقة بالمستقبل عند قطاعات متزايدة من المجتمع "الفاعل" ، وتوقع المفاجأة دائما هو الشعور الغالب الآن على أي مراقب للحالة في مصر أو حتى مشارك فيها ، والمسألة لا تحتاج إلى خبراء لكي يدركوا حجم الخطر ، غير أن انحسار الإدارة السياسية وغياب الخبرة السياسية عن القيادة الجديدة في مصر ، والارتهان للرؤية الأمنية والاستخباراتية بمعاييرها الخاصة ، وبالانقسام المشار إليه داخلها في تقدير الواقع ، من شأنه أن يدفع بالأمور إلى ما هو أسوأ ، ويقرب اللحظة التي تجد فيها "المؤسسة" أنه لا مخرج إلا بتغيير حاسم وتنازلات ضخمة .