يخيم على مصر وبالذات على قاهرة المعز شبح الفوضى . في مدينة مكتظة ب 16 مليون نسمة وفي ظروف البطالة وغلاء المعيشة، فإن شبح الفوضى المخيم يرفع من وتيرة التوتر الاجتماعي ويهدد الأمن الفردي والجماعي . مصدر الفوضى هو ما يبدو من بطء في محاكمة مسؤولين أمنيين متهمين بقتل متظاهرين، على ما تذهب تيارات شبابية سياسية ما زالت تتخذ من ميدان التحرير في قلب العاصمة موضعاً لتجمعاتها الغاضبة، ولما كان مقر وزارة الداخلية على مقربة من الميدان فإن هذه الوزارة ما زالت مستهدفة بضغوط المتظاهرين، وقد حدثت أكثر من مرة محاولات لاقتحامها رغم تغيير الوزير وتوقيف قيادات أمنية بارزة آخرها يوم الأربعاء الماضي 29 يونيو/ حزيران، ما أثار تساؤلات إعلامية حول الهدف من محاولات الاقتحام هذه، وهل هو مثلاً إصدار البيان رقم واحد . من المؤسف أن ثورة شعبية سلمية تبدو مهددة بتبديد بعض إنجازاتها وخاصة طابعها السلمي وذلك بسبب الاستسلام للانفعالات السياسية والاحتكام إلى الشارع وحده . تؤدي الفوضى إلى تباطؤ عجلة الانتاج ونضوب المنشآت السياحية وتسريح المزيد من العاملين لكي ينضموا إلى جيش المتعطلين عن العمل . والأسوأ من ذلك هو تهديد المرحلة الانتقالية وإغراقها بالخوف والشكوك وتعطيل فرص بناء نظام جديد . الأنظار التي كانت متجهة إلى مصر طيلة الأشهر الخمسة الماضية، بدأت تشيح عنها ليس فقط بسبب تفجر الأحداث في ليبيا وسوريا واليمن، ولكن لأن الفوضى التي تشيع في الشارع لا تشكل بحق مصدر إلهام ولا تحوز على إعجاب أحد، إذ هي مخيبة للآمال وتنذر بما هو أسوأ في قادمات الأيام لا سمح الله إذا لم يتم تدارك ما يجري من انفلات سياسي وأمني في الشارع، تختلط فيه انفعالات الثائرين بنشاطات البلطجية ومؤيدي النظام السابق وفلول الحزب الوطني . ومما يسترعي الانتباه أن هذا الانفلات يكاد يغطي على الحراك السياسي والانتخابي، وهذا الأخير يفترض أنه عنوان الحيوية والشاهد على التحول السياسي العميق . في ظرف أفضل من السائد فإن الجدل بين المرشحين للرئاسة والنقاش حول برامجهم السياسية، كان يستحق أن ينعقد الاهتمام حوله، وبما يكرس تقاليد جديدة في الحياة السياسية والوطنية . وكذلك الأمر مع الانتخابات البرلمانية المزمعة، ويحار المرء كيف يمكن للاستحقاق الانتخابي أن يجري، إذا لم تهدأ الانفعالات، وإذا لم تستقر القناعة بوجوب تمكين المجتمع من تدبير أمور حياته في ظروف آمنة، وإذا لم يتح للحكومة الحالية أن تمضي في طريق نقل البلاد إلى حياة دستورية كاملة . من المفهوم أن تكون هناك أخطاء ترتكب أو أن يرى البعض مظاهر من التسرع، فيما يرى آخرون أن هناك حالة من التباطؤ في تسيير الأمور وفي تصفية إرث الحكم السابق، غير أن هذه هي سمات المراحل الانتقالية في تاريخ الأمم، حيث لا يجد الجميع أن مطالبهم كافة تجري تلبيتها بالسرعة المرجوة وبصورة متزامنة وعلى النحو الذين يتطلعون إليه . فعمل القضاء على سبيل المثال يتطلب رفع أي ضغوط عليه من قبل السلطة التنفيذية كما من طرف الشارع السياسي على السواء . يدرك الجميع أن المرحلة الانتقالية في مصر سوف تؤذن بالانتهاء مع حلول سبتمبر/ أيلول المقبل بإجراء الانتخابات النيابية، وتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة عصام شرف الحالية والاستعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية، وبهذا فإن أمد المرحلة الانتقالية التي يتولى فيها المجلس العسكري الأعلى الحكم هو أمد قصير، ويستحق منحه المهلة المناسبة كي يتم الانتقال بسلاسة إلى مرحلة الاستقرار والإقلاع نحو معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وقيام المؤسسات الدستورية بعملها على أتم وجه . هناك اتهامات يتم التراشق بها من قبيل أن مظاهر الدولة البوليسية ما زالت قائمة، وهو انطباع قد يكون هناك ما يزكي صحته في بعض ممارسات أجهزة وزارة الداخلية، وواقع الأمر أن الممارسات المقصودة وكي يتم وقفها وتصويبها، ومحاسبة المسؤولين عنها، فإنها تحتاج من القوى السياسية المختلفة وبالذات من التيارات الشبابية إلى الحرص على وقف التوتير الأمني في الشارع، والانصراف إلى النشاط السياسي المنظم، وتسهيل عودة الحياة الطبيعية، والإسهام عملياً في نقض الشائعات عن اضطراب حبل الأمن في البلاد . وهي شائعات تتردد أصداؤها خارج مصر ولا تجذب الزوار والسياح إلى أرض الكنانة، حتى إنها لا تشجع عودة المصريين المغتربين إلى وطنهم في أشهر الصيف . من يطالع الصحف المصرية على اختلاف توجهاتها، يلاحظ حدة لا سابق لها في الخطاب السياسي وتراشقاً للاتهامات، ونشراً واسعاً للتكهنات والأقاويل، وتداولاً للشكوك من كل نوع، سواء من طرف ناشطين سياسياً، أو من قبل بعض الزملاء المعلقين، وكما لو أن البوصلة مفقودة على حد تعبير الكاتب فهمي هويدي، وهو خطر يهدد الثورة من داخلها، كما يهدد المجتمع السياسي بالتنازع الشديد في غياب اتفاق واضح على الأولويات، ومع عدم تمكين الجهة المنوطة بالحكم ومعها البلاد والعباد، من عبور المرحلة الانتقالية المؤقتة بأمن وسلام . إن ما قد لا يدركه المتعجلون، وأنصار وضع وتنفيذ حلول شاملة فورية لكل المشكلات، أن هذا التسرع مرشح لأن يؤدي إلى نتيجة معاكسة كتمديد المرحلة الانتقالية أو فرض شكل من أشكال قوانين الطوارىء بغية إحلال الأمن من أقصر الطرق وأكثرها “نجاعة” بالفهوم الأمني الضيق والمباشر، ولعل هذه المحاذير تستحق أخذها بالحسبان حتى لا تتجه الأمور إلى ما لا يتمناه أحد . نقلا عن الخليج: