لماذا نطالب بتحسين أوضاع المعتقلين وتوفير سبل الراحة لهم داخل محبسهم؟ هل أصبحوا أسرى أقفاصهم الحديدية وأصبح واقعهم هذا أمر مسلم به ولم يبق أمامنا سوى المطالبة بحسن معاملتهم؟ المفروض أن نطالب بفك أسرهم ، لأن وضعهم غير قانوني وغير شرعي وغير إنساني أيضا. لماذا يحتجز أناس أبرياء لسنوات طويلة تجاوزات العشر سنوات في العديد من الحالات دون سبب؟ هل فكرنا أو فكر جنرالات الداخلية ما هي التغييرات التي تطرأ على نفس وفكر أولئك الأسرى وعائلاتهم من جراء هذا الاحتجاز الطويل والظلم الفادح الذي يتعرضون له؟ يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بقدرة عالية على التكيف والتأقلم مع الظروف التي يتعرض لها لدرجة تصيبنا بالدهشة حين نتأمل كيف يصمد الناس ويعيشون في ظل ظروف مأساوية شديدة الوطأة وعندما نقابل بعضهم نتعجب لتماسكهم وقدرتهم على الاستمرار ولكن في المقابل يخسر الإنسان من نفسه وروحه وتصيبه تشوهات في شخصيته قد لا يمكن إصلاحها فيها بعد. ما الذي يمكن أن يؤول إليه حال إنسان برئ لم تتم محاكمته أو توجيه أي اتهام له ثم يحتجز وكل يوم يمر عليه ينتظر الأمل بلا جدوى تتراكم إحباطاته ويأكل اليأس والإحساس بمرارة الظلم نفسه لا سبيل أمامه إلا أن تتفتح في نفسه أنفاق لتسريب القهر الذي يكاد يفجره من الداخل ، هذه الأنفاق السرية تصب في بحيرة التطرف ولا تنتج غير الإرهاب الدموي ، إنها تشبه الجراثيم المخلقة في بيئات اصطناعية والتي تكون لا حد لشراستها وتوحشها. بحيرة التطرف يشرب منها الكثيرون ولا يتوقف خطرها على من تم سجنه فقط ، وفي حين ينام أباطرة الشرطة قريري العين بعد أن حبسوا كل ما يشتبهون بهم ، يوقظهم من سباتهم عمل مفاجئ وخطير يدوي في سماء الوطن مثل حادث طالبا وشرم الشيخ والأزهر ويفاجأ الجميع أن من ارتكبوا تلك الحوادث شباب خارج كل التوقعات. أحد الأسباب الهامة في دوافع أولئك الشباب إحساسهم بالفزع لغياب العدالة والقانون وإمكانية إلقائهم في غياهب السجون مثل آلاف غيرهم لأدنى اشتباه ، إنهم ينتقمون لغيرهم ويقبضون ثمنا عاجلا لضريبة السجن المؤجلة التي تتأرجح احتمالاتها فوق رؤوسهم ويقض هاجسها مضاجعهم فإذا كان لا مفر من عذاب السجن فليكن في مقابل ضربة موجعة ولتكن الحرب الدائرة سجال بين الطرفين إذ لا يكفي في مواجهتها استسلام وصمت الحملان. يقع الجرم الأكبر على أسرة المعتقل أمه وزوجته وأطفاله وأهله جميعا ، عبء اقتصادي ومعنوي ومادي ومشقة وتعب ، دموع متحجرة وقلوب جزعة ونفوس متصدعة ، تلك الأسرة مرشحة أيضا للعديد من التشوهات ، الأخطر أن تترابط عدة أسر جمعهم المصاب الواحد وتتحد في كتلة تعسة لا يعلم إلا الله ماذا تنتج؟ كيف نحدثهم عن الانتماء والإحساس بالأمان وتحقيق الذات وتقديرها في ظل ظروفهم؟ إنها احتياجات إنسانية أولية لا يستقيم كيان الإنسان دونها وغيابها لابد أن يترك أثرا لا يمحى الأمر يشبه الضغط على كيان مرن ، فإن مواصلة الضغط من جانب سيؤدي إلى انبعاجه في الجانب المقابل وعندما تكثر تلك الوحدات المشوهة المكونة للكيان الكلي للمجتمع فلا شك أن الاضطراب وعدم الاتساق والعجز عن أداء الوظيفة سيكون هو الثمن. أما أبناء المعتقلين فإن عيونهم البريئة تتفتح على نظام حياة غير طبيعية فهم يزورون أباهم في محبسه لدقائق ولا يتعايشون معه في بيوتهم مثل أقرانهم كما أنهم اعتادوا على أجواء السجن والتعامل مع العسكر ومفردات حياة كثيرة وغريبة تجعلهم كأنهم عالقون في عالمهم الافتراضي منفصلين عن واقعهم الطبيعي ويكون أمامهم سبيلين عندما يصلون لمرحلة المراهقة إما التوحد مع أبيهم واعتباره بطلا ولهذا الموقف تبعاته وضريبته أو تبني عكس أطروحته للهرب من نفس مصيره والارتماء على أرض الواقع الطبيعي مهما كانت موحلة وقاسية وهو موقف لا تقل آثاره ونتائجه خطورة عن سابقة سياسة الاعتقال طويل المدى وأخذ الناس بالشبهات قد تظهر نجاحا سطحيا على المدى القصير لكن آثارها مدمرة على المدى القريب والبعيد وسيكتوي الجميع بنارها حكاما ومحكومين داخل الوطن وخارجه وليس من المعقول أبدا أن أتخلص من ألم في ساقي ببترها وأتحول من مريض يأمل في الشقاء إلى عاجز مشوه. لابد من تصفية قضية المعتقلين لصالح المجتمع قبل أن يكون لصالحهم فلا يمكن أن يكون المجتمع صالحا إيجابيا وبداخله كل هذا القهر.