بدأت مرحلة شرعية الزعيم أو الكاريزما وانتهت، ولازلنا مع رأيى المتواضع، خلال فترة حكم عبد الناصر، وهى ذلك النوع الذى يستند فى استقراره الى تجاوز المحكوم وتغاضيه عن أخطاء الحاكم قناعة بأنه الزعيم الملهم الواحد الأوحد، وبالتالى فكل خطاياه انجازات، وكل قمع يمارسه هو موجه لأعداء الشعب، وكل سلبية إنما فعلتها حاشيته دون علمه، وكل ظلم يقع يجب الصبر عليه استعداداً للمعركة الفاصلة التى لا يعلو عليها أى صوت ! وكعادة أى زعامة مستبدة، بنى ناصر شرعيته على حالة الاستنفار الدائم للقوى الشعبية وخلْق عداءات تدغدغ موروث الخيلاء الفرعونى لدى البسطاء، من عينة "انا مش خرع زى المستر إيدن" يقصد رئيس الوزراء البريطانى انتونى ايدن أثناء حرب 1956، وذلك إما استعداداً لمعركة المصير مع العدو الغاشم الخارجى أو القوى الرجعية الداخلية التى لابد من وجودها أصلاً ليوجد الزعيم نفسه !!! وإما للتفرغ لوهم معارك البناء والتنمية، اضافة الى تركيز الخطاب السياسى على أولويات أهم من المطالبة برفاهيات العدالة والحرية والديمقراطية، والتأكيد على ان الزعيم هو من صنع للشعب كرامته، كما قالها ناصر يوم حادث المنشية الشهير " ... فقد وضعت فيكم العزة، فليقتلونى فقد وضعت فيكم الكرامة، فليقتلونى فقد أنبت فى هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة " !!، فالوطن لم تخضَّر أرضه الا تحت حذاء الزعيم، ولم تثمر عزة وكرامة وحرية الا بعد أن غرسها الزعيم ورعاها ! ذلك بين إعلام سام وتغييب متأصل وتأييد غوغائى غير مسبوق، وديماجوجية رهيبة توارى معها كل همس لعقل يدرك بالمقدمات الملموسة ما البلاد مقدمة عليه من نتائج. ويبدو أن الشعب لم يحتمل ذلك الكم الهائل من الحرية والعزة والكرامة، فكانت سلسلة الهزائم المتتالية بما فيها هزيمة 1967 التى مازلنا نحيا أثارها وتبعاتها حتى اللحظة، والتى كسرت شموخ ناصر داخله، الا انها لم تفقده شرعية الزعامة التى لازلنا نرى تواصلها مع شباب صغار ربما ولد اباؤهم أنفسهم بعد وفاة عبد الناصر! فنجدهم يرفعون صوره اليوم بعد اقتراب النصف قرن على وفاته، فى دعاية كبيرة لم يستغلها الحزب الذى يحمل اسمه وفكره !! وليظل لغز الرضا هو نفسه بين مصر الفرعون ومصر الزعيم !! وبوفاة عبد الناصر، الزعيم الشعبى غير السياسى حسب رأيى، انتقلت مصر الى جمهوريتها الثالثة باحثة عن شرعية جديدة مع بروز السادات كسياسى محنك مكنته قيادته الحكيمة، فى بداياتها، للتحول من الهزيمة الى نصر اكتوبر المجيد، الذى هو الأول فى تاريخ مصر الحديث، إلا أنها لم تمنحه شرعية الزعامة المتوقعة كاملة !! الى جانب افتقاد النظام كله لشرعية الدستور التعددية منذ مجلس قيادة الثورة الى هيئة التحرير الى الاتحاد القومى فالاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعى، فأصبح الأمر ولا أدوات سياسية تتفق مع الانفتاح على الغرب الديمقراطى يمكنها تحقيق معادلة "رضا المحكوم بقرارات الحاكم" سلمياً، مع احتياج السادات، حسب نصيحة الغرب، لظهير شعبى وكيان أغلبية يساند توجهه للسلام مع اسرائيل بحث عنه فى محاولته ان يرأس "حزب الوفد الجديد" القادم من عبق الماضى مستندا، وقتها، الى أغلبية كبيرة فى الشارع، اذا أخذنا فى الأعتبار أن الأجيال التى عاصرت الوفد منذ ما قبل ثورة 19، أعنى الأعمار بين الثلاثين والسبعين او اكثر قليلا، كانت تشكل وقتها السواد الأعظم من الشعب وقوته المؤثرة، وبالتالى كانت الفرصة مهيئة من جديد ليسود الوفد الشارع بصورة ربما تفوق زخمه الماضى بعد أن عانى الشعب من التجربة الناصرية، لولا أمور أخرى وفدية داخلية ليس هنا محل استعراضها. حاول السادات فكان قرار تجميد الوفد لنفسه 1978، فلم يكن أمام الرجل، وقد اغلقت المنافذ، إلا العودة لإكتساب رضا المحكوم عن طريق الحل الأسهل فى أى زمان ومكان، أعنى شرعية القيم والتقاليد بصورتها السيئة التى ظهرت فى عصور الضعف كما تقدم شرحه فى الحلقة الأولى، فأطلق السادات على نفسه القاباً شعبية مثل "كبير العائلة المصرية"، أو ألقاباً رسمية مثل "الرئيس المؤمن"، مع محاولات محمومة من الإعلام, آداة الحاكم دائما، لخلق صور ذهنية تعبر عن الهيبة والقيادة كارتداء الجلباب البلدى، أو الزىّ العسكرى الغريب المزين بوشاح القضاء ونياشين عديدة غير مفهومة ! ذلك، وغيره، للإيحاء بالبعدين القيمى والدينى الذين ترفض الطبيعة النفسية المصرية الخروج عليهما تحت أى مبرر، مع طيف بسيط من تعددية سياسية صورية وليدة غير مؤثرة ضاق بها صدر السادات نفسه ! الا أن واضع ذلك السناريو الساداتى المختلط لترقيع ثوب الشرعية، لم يفطن للتغير المتسارع فى منظومة القيم الشعبية نتيجة الحراك الإجتماعى الذى خلفته سياسات التأميم والاشتراكية ثم الإنفتاح الإقتصادى، من انقلاب للهرم الإجتماعى وتبديل لسلم الأولويات والإهتمامات ونسف التابوهات القيمية المتوارثة كما يقول استاذنا الدكتور جلال امين فى كتابه القيم "ماذا حدث للمصريين"، فكانت النتيجة أشبه بمسرحية هزلية من كوميديا المأساة، لم يجد الشعب مفراً من متابعة فصولها البلهاء التى إختُتِمَت بحادث المنصة المأساوى الذى أنهى عهد الجمهورية الثالثة بصورة غير مسبوقة، لتبدأ جمهورية جديدة باحثة عن شرعية من أى نوع ! بدأت الجمهورية الرابعة، وانتهت، ولا وجود لتعددية دستورية حقيقية ولا كاريزما زعامة ولا اهتمام شعبى بقيم مجتمعية او تقاليد، اللهم نسبياً فيما يخص الدين الذى تحول على يد البعض الى التشدد الغريب عن المكون النفسى المصرى، فانصرف الناس عن كل عمل عام إلا إذا وسوس فى صدورهم وسواس بالدين وأحكامه. ولم يكن مبارك بالرجل الذى يجيد التمثيل أو تقمص الأدوار التاريخية الصعبة او إرتداء المسوح الدينية، فبدأ عهده بشرعية من صبر المحكوم وصمته وتفاعله مع الحالة الأمنية المضطربة بعد اغتيال السادات، سرعان ما تحولت الى شرعية الإستبداد المطلق والخوف من الدولة البوليسية ومؤسساتها الأمنية التى أصبحت تتحكم فى أدق خصوصيات المواطن، ولتستمر كذلك، حسب رأيى، حتى 2005 حين بدأ النظام فى تجميل صورته فأخذ باسلوب أشبه بمبدأ " الأوتوقراطية الليبرالية" وهى نظام غير ديموقراطى تتركز فيه السلطة بيد حاكم غير منتخب، أو المنتخب بطريقة صورية، لكنها تحترم حريات الشعب وحقوق افراده بنسب تتفاوت من حاكم لاخر وما يسمح به من هامش للتعبير غير الملزم لسياساته، او بمنطق حرية الصراخ ، أو حرية تعبير قد لا تتبعها حرية بعد التعبير، على حد رأيى ! ذلك رغم وهم التعددية السياسية طوال عهد مبارك بوجود أحزاب كثيرة تحولت صغارها الى دكاكين أنشأها النظام نفسه مقابل الإسترزاق السياسى، وفهم كبارها قواعد اللعبة جيداً واستوعبوا دورهم المرسوم كعنصر من عناصر معادلة "ماذا يريد النظام لبقائه وما المقابل ؟!" فالنظام لم يكن، وما زال، يريد أكثر من قشرة الغطاء الديموقراطى أمام المجتمع الدولى بإدعاء وجود أحزاب معارضة تؤرق مضجعه فلا يمكنه تمرير ما يشاء! فحين اتهموا مبارك فى الغرب بديكتاتورية نظامه أجاب " كيف وعندى حزب الوفد اقدم الأحزاب الليبرالية فى المنطقة ؟!" ، وهى حرفياً نفس اجابة مرسى بالمناسبة حين اتهموه بتحويل مصر الى دولة دينية ! بمعنى أن نظام مبارك فى الجمهورية الرابعة زاد فى فساد الحباة السياسية ووضع اللحن والنوتة الموسيقية الدائمة للعبة الكراسى الموسيقية الحزبية، لتبقى الكراسى ثابتة .. الشخوص ثابتة .. اللحن لا يتغير، المتغير الوحيد هو النظام عازف اللحن .. مبارك فطنطاوى فمرسى فمن سيأتى ! وليظل السوس ينخر فى الهيكل الديمقراطى المزعوم، وليتحول الشارع الى تكتلات وحركات سياسية حقيقية غاضبة موجودة وملموسة على الأرض، جميعها خارج الإطار الحزبى المنبطح المستأنس الذى شكل جزءً كبيراً من صناعة نظام مبارك وطواغيته وما جاء بعده، ويعدّ ادواته الآن لصناعة طاغوت جديد ! وللحديث بقية ان شاء الله تعالى ثم أذن مضيفونا وكان فى العمر بقية ضمير مستتر! يقول تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأنفال53
رابط الجزء الأول: http://almesryoon.com/المقالات/blog/53-وجهة-نظر/549569-مصر-شرعية-الجمهورية-السابعة-1
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.