بعد انتهاء الحرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، لا زال هناك جدل حول المنتصر في هذه المعركة، في ظل الخسائر التي تعرض لها كلا الجانبين، غير أن معايير النصر والهزيمة تأخذ شكلا مختلفا في هذا الصراع، ولا يتم قياسها وفقا لحجم الدمار أو عدد القتلى، ولكن بتحقيق الأهداف وتغيير موازين القوى وحجم الآثار السياسية والمتغيرات الداخلية لدى كل طرف. وبالقياس على هذه المعايير، فإن المقاومة الفلسطينية خرجت من هذه الحرب منتصرة ليس فقط بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار وفقا للشروط التي طرحتها من قبل، ولكن أيضا بحسب نتائج هذه الحرب على الجانب الإسرائيلي الذي بدأت تداعياتها تظهر في تصدع جبهته الداخلية والحديث داخل أروقة صنع القرار في إسرائيل عن انتهاء المستقبل السياسي لرئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو، وهو ما يفتح المجال واسعا أمام الحديث بشكل واقعي عن انتصار المقاومة، لكن في نفس الوقت ضمن إطار واضح لثمار الحرب بالنسبة للمقاومة وحجم الضرر الذي لحق بإسرائيل. فمن الناحية العسكرية، هناك من يتحدث عن أن عدد القتلى الفلسطينيين أكثر بكثير من الإسرائيليين في هذه الحرب وأن هذا يعد مؤشرا على هزيمة المقاومة ، لكن هذا القياس في المعارك ليس صحيحاً؛ فإذا رجعنا إلى التاريخ، سنجد أن هذا كان حال مصر في حربها مع إسرائيل عام 1973، كما كان الحال الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها مع فيتنام، وهو نتاج طبيعي لأي حرب تقع بين قوتين غير متكافئتين في الترسانة العسكرية، ولكن في النهاية يتحدث الجميع عن انتصار مصر على إسرائيل، وعن هزيمة الولاياتالمتحدة في فيتنام، حيث أن نتيجة الحرب تحددها الأهداف التي تمكن الطرف الأقوى من تحقيقها. وفي هذا الإطار، لم تحقق إسرائيل في الحرب على غزة أي هدف عسكري، بل كان مسار الحرب أخطر بكثير على إسرائيل بعد انهيار القبة الحديدية أمام صواريخ المقاومة وتعري إسرائيل بالكامل، تماما كما حدث في حرب مصر مع إسرائيل بعد انهيار خط برليف، وهو ما يعد معيار هزيمة مدوية لإسرائيل التي لا تحارب إلا من وراء جدار عسكري ونفسي يمنع أعداءها من التفكير في تجاوزه وربما يصل الأمر إلى حد الترويج إلى أن ذلك أمرا مستحيلا. لذلك فإن سقوط خط برليف "المنيع" والقبة الحديدية جعل من هذا الجدار سلاحا ذي حدين، حيث أدى انهياره في حالة الحرب مع مصر إلى استعادة سيناء رغم التفوق العسكري لإسرائيل آنذاك، كما دفع إسرائيل في حالة الحرب على غزة إلى عدم استكمال الحرب، وصعوبة التفكير في شن حرب وشيكة لاحقا، خاصة وأن انهيار هذا الجدار "القبة الحديدية" انعكس سريعا على فشل المعركة البرية بعد سقوط عشرات القتلى من جنودها ووقوع أحد الجنود في الأسر، ليضاف ذلك إلى رصيد المقاومة الفلسطينية التي تمكنت من تجاوز خطوط العدو والتسلل لأول مرة إلى قلب قواعده العسكرية، وهو ما أدى لاحقا إلى إقالة نائب وزير الدفاع الإسرائيلي وتفكيك "لواء جولاني" الذي كانت تعول عليه إسرائيل في إنجاز المعركة البرية وإعادة احتلال غزة، وهو الهدف الأساسي في هذه الحرب. كما كشفت العمليات التي قامت بها المقاومة داخل إسرائيل عن مدى رفاهية جيل الشباب في إسرائيل، وضعف قدراتهم القتالية وعقيدتهم وإيمانهم بالدفاع عن الكيان الصهيوني، وهو أمر ظهر جليا في الفيديوهات التي تداولتها وسائل الإعلام وظهر فيها جنود الاحتلال وهم يجرون خوفا من الصواريخ التي تنهار فوق رؤوسهم، ومن أمام عناصر المقاومة الفلسطينية الذين أنجزوا عمليات تسلل هامة بحريا وبريا، ووصلت إلى قضاء بعضهم ما يقارب الشهر داخل نفق قصفته إسرائيل. أما على صعيد الجبهة الداخلية لإسرائيل، فقد عاش الإسرائيليون 50 يوما في ذعر وهلع في كل الأراضي المحتلة، وهي أطول مأساة لهم منذ قيام كيان الاحتلال الإسرائيلي في عام 1948، لتظهر القيادة العسكرية عاجزة عن حماية مواطنيها، ولتخرج على إثر ذلك تظاهرات تهتف ضد فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نيتانياهو، وليصبح الحديث الدائر في إسرائيل عن انتهاء مستقبله السياسي. وعلى الجانب الفلسطيني، جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة بنتائج إيجابية للوحدة الوطنية سواء شعبيا أو سياسيا، وذلك على عكس المسار المستهدف من إسرائيل التي كانت تعول على أن قتلها للأطفال والمدنيين الفلسطينيين في غزة سيؤدي إلى ممارسة ضغط شعبي هائل على المقاومة لإعلان هزيمتها وخضوعها لإسرائيل، لكن ظهرت على العكس الجبهة الداخلية الشعبية متماسكة وخرجت تظاهرات تأييد واسعة للمقاومة ليس فقط في قطاع غزة وإنما في كل الأراضي الفلسطينية. وفي نفس الوقت، عولت إسرائيل على بث الفرقة بين القوى الفلسطينية وتدمير المصالحة الوطنية التي تمت قبل وقت قصير من الحرب، وذلك من خلال محاولة استقطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حيث ظهرت أصوات داخل الكيان الصهيوني تشير إلى أن أي اتفاق تهدئة سيتم توقيعه فقط مع عباس وليس مع المقاومة، لكن إدراك عباس لحجم الظهير الشعبي المؤيد للمقاومة حال دون نجاح إسرائيل في الرهان على هذا الانقسام، في وقت لا يغفل فيه عباس حجم التحركات الخارجية المكثفة لإزاحته لصالح القيادي في حركة فتح محمد دحلان. كما تبنت السلطة الفلسطينية التي يترأسها محمود عباس موقفا صريحا ضمن مسار تكاملي للمقاومة، وترأس القيادي في حركة فتح عزام الأحمد وفد التفاوض عن الجانب الفلسطيني في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل في القاهرة، لتخرج الحرب الإسرائيلية على غزة بثمار حقيقية ستجد طريقها في تفعيل المصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية قوية قائمة على هدف وقضية واحدة وضد عدو واحد. أما على الصعيد الدولي، فقد منيت إسرائيل بخيبة أمل بعد أن ظهرت للعلن الانتقادات الحادة التي وجهها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى نيتانياهو بسبب طريقة إدارته للحرب التي لم تحقق أيا من أهدافها، وبعد أن شهدت عواصم عالمية تظاهرات حاشدة ضد العدوان الإسرائيلي على الأطفال والمدنيين في غزة، أضعفت من موقف إسرائيل أمام المجتمع الدولي. في الوقت نفسه، عولت إسرائيل كثيرا على أن الموقف المصري الرسمي سيكون مؤيدا لها في ظل الاتهامات التي ظهرت في وسائل الإعلام المصرية لحركة حماس، والتي نزعت الصراع من مضمونه واختزلت هذه الحرب في كون المقاومة تضم حماس فقط وأنها "فصيل إرهابي" منتمي لجماعة الإخوان ويتاجر بالدماء، متجاهلة أن كل القوى والفصائل الفلسطينية بما فيها حركة فتح وجناحها المسلح "كتائب شهداء الأقصى" أعلنت أنها تقاتل في هذه الحرب، قبل أن يخرج اتفاق وقف إطلاق النار النهائي من مصر ببنود لاقت ترحيبا من كل الفصائل الفلسطينية وبشكل يضمن استمرار المقاومة التي تمثل ظهيرا هاما للأمن القومي المصري. وفي النهاية، تنضج الثمرة الأهم لهذه الحرب، وهي: أن انتصار المقاومة أعطى أملا جديدا في تربية الأجيال الناشئة على أن استعادة الأقصى ليس حلما مستحيلا كما يروج الاحتلال الصهيوني، وأن كونه أكثر نفيرا ليس مثارا لليأس، وأن ضعف السلاح والعتاد ليس مبررا للخوف، وأن أسطورة إسرائيل التي لا تقهر ما هي إلا جدار يسقُط بإرادة ترتكز على اليقين بنصر الله.
للتواصل عبر الفيس بوك : https://www.facebook.com/atef.elhemaly