أصبح ميدان التحرير في مصر رمزا من رموز التحرر الوطني، ورمزا لشهداء الحرية، ورمزا لانتصار إرادة شعب، وناقوسا ينبه من تسول له نفسه الاجتراء علي الحقوق والحريات لهذا الشعب . واحتضن ميدان التحرير في كل جمعة جحافل الثوار الداعين إلي الكرامة والحرية وإلي محاسبة المتجاوزين، ورقيبا علي قدر التزام القائمين علي أمر البلاد بتنفيذ مطالب الثائرين، والسعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة النظر في القوانين المعادية لها واستبدالها بقوانين داعمة . وضربت القوات المسلحة في مصر نموذجا رائدا ورائعا فاق نموذج سوار الذهب فدعمت الثوار وحمتهم وأيدت مطالبهم وضمنت مكاسبهم ، والأكثر من هذا ، وهو ما يدعو للإعجاب والغرابة ، أن العسكريين لم يسلكوا الدور المألوف للمؤسسات العسكرية في السعي للاستئثار بالسلطة وإحكام قبضتهم علي البلاد بل كانوا ليسوا فقط حافظين لنهج الديمقراطية ، وكانوا أكثر حرصا علي تطبيق الديمقراطية من بعض أدعيائها ممن يسمون بالليبراليين الذين سقطوا في كي جي ون ورفضوا الاعتراف بإرادة الأغلبية التي أفرزها استفتاء شهدت الدنيا بنزاهته . ولا يجد المتابع لمسيرة هؤلاء وما يثيرونه من ضجيج وسفسطة سوى أنهم يريدون ديمقراطية تفصيل وليست ديمقراطية تعكس إرادة شعب ، فلم يرض هؤلاء التجار حسم الأغلبية لطلب مؤسسات شعبية أولا ثم دستور من خلالها ثم رئيس دولة ، بل عادت هذه الأقلية لمطلب الدستور أولا ، فمع ما قد يكون لرأيهم من وجاهة لكن إرادة الشعب أوجه . ولا شك أن مثل هذا البعد ينفي صفة الديمقراطية عن هذه الأقلية وكذلك يشكك في مدي فهمهم لليبرالية التي تفرض ضرورة القبول برأي الأغلبية وليس الالتفاف أو التمرد عليها . فدعوة هؤلاء لجمعة الغضب واحتمائهم بمجموعة من الثوار يعد انتكاسة للديمقراطية، وخروجهم في برامج تليفزيونية ليعلنوا رفضهم لإرادة الأغلبية وفرضهم لرأيهم يعد نموذجا للاستبداد وعدم الوعي، فإلقائهم التهم علي التيار الإسلامي برمته يعد استبدادا بالرأي وعدم قبول رأي الغير، وادعائهم باحتكار الوطنية والثورية دون غيرهم بل ونفيها عن الآخرين يعد خروجا علي أبسط قواعد الحوار الحر . فقد عبر أحد هؤلاء التجار عن رفضه للتيار الإسلامي وكرهه له وكأنما يقدم بهذا قربانا للسادة الكارهين لهذا التيار، وعلق علي الاستفتاء الشعبي النزيه بقوله" إحنا عديناها كده " كأنه وحده المتحدث باسم مصر ، ثم عاد في نفس اللحظة ليناقض نفسه بمطالبة التيار الإسلامي بكرم الأخلاق الذي يجب مراعاته في الانتخابات القادمة ليسمح بوضع بعض هؤلاء في قوائمه، فأي سبيل عندهم جائز طالما يحقق مصالحهم حتى ولو كان اللعب علي وتر الأخلاق في دنيا السياسة . كما أن هذا لا يعبر عن قبولهم بصندوق الانتخاب الحر الذي يحسم رأي الأغلبية فهذه أول مسلمات الديمقراطية . وزامن ذلك أحاديث لبعض كتاب السيناريو والقصص والروايات وصناع الأفلام الهابطة في محتواها ووسائل عرضها والذي امتطوا الركب الثوري لمجرد تفسير ملتوي لموقف أو زيارة في سهرة لميدان التحرير تحاط بقصص من خيالهم السينمائي أو الروائي المخادع ، والذين قد لا يفهمون من الليبرالية سوي فتح أزرار القمصان إلي أسفل البطن ونكش الشعر ، وضخموا من عدد اللذين حضروا جمعة الغضب بعد أن ضموا لهم وفق الخدع السينمائية بائعي البطاطه والبيبسي والكشري والترمس وعربيات الكبده التي أسس لها فيلم اللينبي . وزينوا موقفهم بحضور مجموعة من الثوار الذين حضروا هذا اليوم وعبروا عن رأيهم بحرية ونقاء وبأسلوب شفاف عرفوا به . واستعاد هؤلاء زمن التحدث باسم مصر الذي كانوا ينفردون به مع المنتفعين أيام الاستبداد والعهر السياسي . علي أن بعض هؤلاء التجار قد امتدت بهم البجاحة إلي حد تبرير رأي الأغلبية في الاستفتاء السابق والخشية من الانتخابات القادمة بأنه ينم عن وجود أمية سياسية محتكرين الفهم والوعي السياسي وحدهم دون أغلب الشعب، وإذا سألناهم عن سبب هذه الأمية فيرجعونها للنظام السابق دون أن يرجعوها لتفسيرها الحقيقي في فشل التيار الليبرالي ودعاة التنوير منذ عصر محمد علي وحتى أحداث 1952، ثم فشل التيار اليساري، ورغم انفراد كل منهم بالساحة الثقافية وتغييبهم لغيرهم ، في إحداث أي دور في محو الأمية السياسية ، لو سلمنا جدلا بوجودها وفقا لافتراضهم المسئ لشعب مصر . والحقيقة أن هذا الشعب العظيم علي قدر كبير من الوعي السياسي والثقافي ، ويعرف الخبيث من الطيب، ولا تخيل عليه وسائل وأساليب كتاب السيناريو والروايات المترجمة إلا من باب التسلية ، وسيرد عليهم بما يؤكد وعيه ونضجه . كما لن تخيل عليه لعبة الأمريكيين والصهاينة في إرسال مجموعة من الباحثين المصريين الذين كانوا يعملون في مراكز بحثية في أمريكا ثم تركوها فجأة وعادوا إلي مصر في محاولة للعب دور مؤثر في الساحة السياسية المصرية علي غرار ما حدث في العراق . الذي لابد أن يعيه هؤلاء التجار أن التيار الإسلامي في مصر يستند إلي ظهير شعبي كبير أو هو في الحقيقة هذا الظهير الشعبي، وشعب مصر يدرك ويؤمن بأن الزبد سيذهب جفاءا وأن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض وإن غدا لناظره قريب . * مؤرخ مصري